خطورة الفكر التكفيري

أ.د/ محمد مختار جمعة

وزير الأوقاف

خطورة الفكر التكفيري والفتوى بدون علم على المصالح الوطنية والعلاقات الدولية هو عنوان مؤتمرنا الثالث والعشرين للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف ، حيث يأتي عقد هذا المؤتمر في مرحلة دقيقة وفارقة من تاريخ أمتنا العربية بصفة عامة وتاريخ جمهورية مصر العربية بصفة خاصة ؛ في أعقاب ثورتين مرت بهما جمهورية مصر العربية ، هما : ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م ، والثلاثين من يونيه 2013م ، في وقت تستعيد فيه مصر مكانتها التاريخية وقيمها الحضارية التي لا تعرف سوى التسامح الذي يحمل لواءه بقوة ووضوح أزهرها الشريف .

غير أننا في مصر عانينا – كما عانى غيرنا في دول المنطقة وفي الكثير من دول العالم – أشد المعاناة من موجات التشدد باسم الدين ، واقتحام غير المتخصصين لساحات الدعوة والفتوى ، وتوظيف الدين لأغراض سياسية مما جعلنا نقرر وبقوة النأي بالدعوة والفتوى معًا عن أي توظيف سياسي أو صراعات حزبية أو مذهبية ، قد تتاجر باسم الدين أو تستغل عاطفة التدين لتحقيق مصالح خاصة حتى لو كان ذلك على حساب أمننا القومي .

والذي لا شك فيه أن أي موجات للتشدد أو العنف أو الإرهاب أو الإسراع في التكفير  إنما تنعكس سلبًا على قضايا الوطن وأمنه واستقراره ومصالحه العليا من جهة ، وعلى علاقاته الدولية من جهة أخرى ، حيث يصبح الخوف من عدوى التشدد هاجسًا كبيرًا لدى الأوطان والدول الآمنة المستقرة ، في وقت صار العالم فيه قرية واحدة ما يحدث في شماله يؤثر في جنوبه ، وما يكون في شرقه نجد صداه في غربه ، بل إن تأثير الجهات الأربع يتداخل ويتوازى ويتقاطع بشدة في ظل معطيات التواصل العصري عبر شبكات التواصل المتعددة التي لم يعد بوسع أحد تفادي أصدائها وتأثيراتها .

وقد حذر العلماء من خطورة إطلاق التكفير دون دليل قاطع ، فقال الإمام الشوكاني  (رحمه الله) : إن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دينه ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار ، وفي التأكيد على خطورة التكفير والتحذير من إطلاقه بدون حق يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم ) : ” أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ . فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ” ( أخرجه البخاري ومسلم ) .

والذي لا شك فيه أيضًا أن روح التسامح والوعي بمقتضيات فقه التعايش من خلال المشتركات الإنسانية والتواصل الحضاري في ضوء الاحترام المتبادل بين الأمم والشعوب من جهة ، وبين الطوائف المتعددة في المجتمع الواحد من جهة أخرى ، إنما تنعكس إيجابًا على المصالح العليا للوطن من حيث الأمن والاستقرار ، والتقدم والرخاء ، بما يؤدي إلى مستقبل أفضل ، والرقي إلى مصاف الأمم المتقدمة ، وأن هذه الروح هي أصل من أصول الدين حيث قام التشريع الإسلامي على اليسر ورفع الحرج ، يقول الحق سبحانه وتعالى : ” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” (البقرة : 185) ، ويقول سبحانه: ” وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ” (الحج : 78) ، ويقول نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : ” إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ ” (صحيح مسلم) ، وما خُيّر (صلى الله عليه وسلم ) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا ولا  قطيعة رحم ، فإن كان إثمًا أو قطيعة رحم كان ( صلى الله عليه وسلم ) أبعد الناس عنه .

غير أن اقتحام غير المتخصصين لعالم الدعوة ، وتصدرهم بغير حق لمجال الفتوى أدى إلى كثير من الضلال والإضلال والانحراف ، وصدق نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) إذ يقول : ” إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ” (صحيح البخاري) .

ومن هنا كان اختيار موضوع ( خطورة الفكر التكفيري والفتوى بدون علم على المصالح الوطنية والعلاقات الدولية ) عنوانًا لهذا المؤتمر ، قصد تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى كثير من الشباب والجماعات المتطرفة التي اتخذت من تكفير الآخر أو تخوينه أو اتهامه في دينه أو وطنيته وسيلة للتخريب والإفساد في الأرض ”  وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ” (البقرة : 205 ) .

وإننا إذ نقيم هذا المؤتمر نؤمّل أن يقدم حلولا جذرية وإسهامًا جادًا في القضاء على الفكر التكفيري وفوضى الفتاوى التي تضر بالمصالح الوطنية والعلاقات الدولية.

 

 

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى