الاجتهاد ضرورة العصر
الاجتهاد ضرورة العصر
الاجتهاد ضرورة العصر، فقد عانينا في مجتمعاتنا المسلمة وعانى العالم كله من الفتاوى الشاذة والمؤدلجة على حد سواء، كما عانينا من افتئات غير المؤهلين وغير المتخصصين وتجرئهم على الإفتاء والذهاب إلى أقصى الطرف تشددًا وتطرفًا يمينيًّا، أو انحرافًا وتطرفًا يساريًّا، فإذا أضيف إلى هؤلاء وأولئك محبو الظهور من اللاهثين خلف كل شاذ أو غريب من الآراء، تأكد لدينا أننا في حاجة إلى إرساء وترسيخ قواعد الاجتهاد وضوابطه، وبخاصة الاجتهاد الجماعي في القضايا التي لا يمكن البناء فيها على الأقوال الفردية، والتي تتطلب الفتوى فيها خبرات متعددة ومتكاملة، ولا سيما في القضايا الاقتصادية والطبية والبيطرية وشئون الهندسة الزراعية وغير ذلك من مفردات حياتنا ومستجدات عصرنا التي تحتاج إلى رأي أهل الخبرة لتبنى عليه الفتوى.
ولا شك أن هذا الاجتهاد الجماعي سيسهم بشكل كبير وواضح وبنَّاء في القضاء على الآراء الشاذة، وعلى إزالة كثير من أسباب التطرف، والانغلاق، والجمود، والتقليد الأعمى، وسوء الفهم، والوقوف عند حرفية النصّ، والابتعاد عن فقه المقاصد والمآلات، وعدم فهم القواعد الكلية للتشريع، وإتاحة الفرصة لتصدر غير المؤهلين وغير المتخصصين لبعض جوانب المشهد الدعوي.
كما أن هذا الاجتهاد الجماعي يمكن أن يؤدي إلى تحقيق جانب كبير من التقارب بين العلماء، ويزيل كثيرًا من أسباب الفُرْقَة والخلاف، مما يسهم – بلا شك – في وحدة صف الأمة، ولا سيما في مواجهة الأفكار الشاذة والمنحرفة والضالة والمتطرفة.
هذا وقد فتح الإسلام باب الاجتهاد واسعًا، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): “إِنَّ الله (عز وجل) يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”، وطبعيّ أن هذا التجديد لا يكون إلا بالاجتهاد والنظر ومراعاة ظروف العصر ومستجداته.
وقد أقر نبينا (صلى الله عليه وسلم) مبدأ الاجتهاد حتى في حياته (صلى الله عليه وسلم) فقد بعث (صلى الله عليه وسلم) سيدنا مُعَاذ بن جبل (رضي الله عنه) إِلَى الْيَمَنِ، وقَالَ لَهُ: (كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟)، قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ الله، قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ في كِتَابِ الله؟)، قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ الله، قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ في سُنَّةِ رَسُولِ الله؟)، قَالَ: أَجْتَهِدُ رأيي ولَا آلُو”.
فلم يقل سيدنا معاذ لسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إن لم أجد حكمًا في المسألة في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنتظر أو أتوقف حتى أرجع إليك أو سأرسل إليك رسولًا، ولم يطلب النبي (صلى الله عليه وسلم) منه ذلك، بل أطلق له حرية الاجتهاد في حياته (صلى الله عليه وسلم)، ولم يطلب منه حتى مراجعته، وعرض ما يقضي به عليه، بل ترك له مساحة واسعة للاجتهاد والنظر، قائلًا له : ” الْحَمْدُ لله الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ الله لِمَا يُرْضِي رَسُولَ الله”.
ونؤكد أن الله (عز وجل) لم يخص بالعلم ولا بالفقه ولا بالاجتهاد قومًا دون قوم، ولا زمانًا دون زمان، كما نؤكد أيضًا أن الاجتهاد الذي نسعى إليه يجب أن ينضبط بميزان الشرع والعقل معا، وألا يُترك نهبًا لغير المؤهلين وغير المتخصصين أو المتطاولين الذين يريدون هدم الثوابت تحت دعوى الاجتهاد أو التجديد، فالميزان دقيق، والمرحلة في غاية الدقة والخطورة ؛ لما يكتنفها من تحديات في الداخل والخارج.