التلبية ورمي الجمرات
والتيسير في الحج
التلبية استجابة لنداء رب العالمين ، ودعوة أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) ، واتباع لسنة خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، حيث يردد الحاج : لبيك اللهم لبيك ، أي : إجابة لك بعد إجابة ، وفوق إجابة ، وتسليم لك بعد تسليم ، وإثر تسليم ، فهي تسليم وخضوع وانقياد مطلق لوجهه الكريم .
وتمام هذه التلبية أن تكون بالقلب والعقل ، واللسان وسائر الجوارح ، بحيث تمتلك من الإنسان نفسه وكيانه كله، فيصير عبدًا ربَّانيًّا : في حركاته وسكناته ، في خضوعه وانقياده ، بكل ما تعنيه تلك الكلمات من معان جامعة .
ومن تمام التلبية أيضًا ألا نقف بها عند مشاعر الحج ومناسكه ، إنما يكون ذلك بأن تتحول هذه التلبية إلى منهج حياة ، فيراك الله (عز وجل) حيث أمرك وحيث يحب أن يراك، ولا يراك حيث نهاك وحيث لا يحب أن يراك ، وبهذا نحقق معنى التلبية.
أما رمي الجمرات فهو نسك يرمز إلى رجم الشيطان ، وللناس في ذلك مسالك ، فمن وقف عند الشكل فقد أسقط أداء النسك عن نفسه أو من وكله عنه ، وعلم أنه يرمز بنسكه هذا إلى رجم الشيطان الرجيم ، أما من أراد الجوهر فإنه يتجاوز شكلية الرجم إلى دلالته الحقيقية ، وهي مواجهة الشيطان ومقاومته ، والعمل على التخلص من سلطانه وسطوته ، حيث يقول الحق سبحانه: ” إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ” ، فيعقد العزم على سد ثغرات الضعف النفسية لديه ، ليكون قويًّا في مواجهة وسوسة الشيطان وتحدياته ، حتى لو أجلب بخيله ورجله ، فلا يكذب ، ولا يغش ، ولا يغدر ، ولا يخون ، ولا ينم ، ولا يغتاب ، ولا يحتكر ، ولا يلغ في الدماء ولا الأموال ولا الأعراض ، لا يظلم ، ولا يجهل ، ولا يأكل الحرام ، ولا ينافق، ولا يؤذي أحدًا، وعلى الجملة يستحي من الله (عز وجل) أن يراه حيث نهاه وألا يراه حيث أمره ، فيصير عبدًا ربَّانيًّا ، حركاته وسكناته وسائر جوانب حياته لله (عز وجل).
ونؤكد على أهمية التيسير على الناس وأخذهم بالأيسر في وقت الرمي وغيره من أعمال الحج ، فإذا كان ديننا الحنيف قائمًا على التيسير ورفع الحرج فإن هذا التيسير في الحج أولى وألزم ، فما يسر نبينا (صلى الله عليه وسلم) في شيء أكثر من تيسيره على حجاج بيت الله عز وجل في قولته المشهورة : ” افعل ولا حرج” ، وإذا كان هذا التيسير مع ما كان عليه عدد الحجيج آنذاك فما بالكم بموجبات التيسير في زماننا هذا ؟
غير أن التيسير الذي نسعى إليه هو التيسير المنضبط بضوابط الشرع ، المقرون بمدى القدرة والاستطاعة ، إذ ينبغي أن يحرص المستطيع على أداء العبادة على وجهها الأكمل والأفضل الذي يحقق لصاحبها أعلى درجات الفضل والثواب ، وبما لا يصل إلى حد التهاون الذي يُفرّغ العبادة من مضامينها التعبدية الأصيلة السامية ، وبحيث لا تنحصر همة الإنسان في تتبع كل الرخص في كل الأركان والواجبات وعلى كل المذاهب ، إنما يأخذ من الرخص ما يقتضيه واجب الوقت وظروف أداء الشعيرة وموجبات التيسير .
وعندما يتحدث العلماء عن مسائل التيسير في الحج فإنما يعرضونها ليأخذ المحتاج منها بالقدر الذي يُذهب عنه المشقة غير المحتملة ، ويخفف عن أصحاب الأعذار المشقة التي لا تُحتمل في ضوء ما يجيزه الشرع الحنيف من أوجه التيسير ، وليحرص العلماء والمفتون على التيسير على الناس ، وليأخذ الناس أنفسهم بالرفق واليسر واللين ولكن دون إفراط أو تفريط.
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف