الهجرة النبوية وميلاد دولة
لم تكن الهجرة النبوية المشرفة حدثًا عاديًّا إنما كانت حدثًا غير مجرى التاريخ، فكانت أهم نقطة تحوُّل في تاريخ الإسلام، تحوُّل نحو بناء الدولة، فما أن حلَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة المنورة المشرفة حتى أخذ في تأسيس بناء الدولة وإقامة أركانها، بدءًا بالمسجد الذي كان بمثابة منارة جامعة للعبادة والعلم والتربية معًا، مرورًا بإنشاء سوق بالمدينة، في إشارة واضحة بارزة إلى أهمية الاقتصاد في بناء الدول.
على أن فهمنا لمقاصد الأمور يتطور بتطور الزمان والمكان والأحوال، فلم يعد أمر الاقتصاد قاصرًا على إقامة الأسواق السلعية الحياتية، إنما يقوى شأن الدول اقتصاديًّا بما تقيمه من أسواق إقليمية، أو دولية، أو لوجستية، في مجال الغذاء، أو الكساء، أو الطاقة، أو التكنولوجيا، وهو ما تعمل الدولة المصرية في وقتنا الراهن على امتلاك أدواته.
وإلى جانب ذلك كانت وثيقة المدينة التي تعد أهم وثيقة تعاهد للتعايش السلمي في تاريخ البشرية، حيث نصت على إقامة الحقوق والواجبات المشتركة على أساس وطني وإنساني، حين قررت أن يهود بني عوف، ويهود بني النجار، ويهود بني الحارث، ويهود بني ثعلبة، وسائر اليهود بالمدينة مع المؤمنين أمة، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، فأقرت حرية المعتقد وحرمة دور العبادة للجميع دون تمييز.
وفي المدينة كان بناء الجيش الذي لابد منه للحفاظ على كيان الدولة، في حين لم يتم بناء هذا الجيش في مكة إذ لم يكن للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الكرام دولة.
وتجلى في رحلة الهجرة مفهوم التوكل في أسمى معانيه، فعندما قال سيدنا أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) لسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهما في الغار والمشركون على حافته: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، قال له سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا، يقول الحق سبحانه: “إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.
ومع الاطمئنان لهذه المعية أخذ سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه بأقصى الأسباب، فاستأجرا أجيرًا خبيرًا بمسالك الطرق هو عبد الله بن أريقط، وسلكا طريقًا غير معهود إلى المدينة، ونام الإمام علي (رضي الله عنه) على فراش سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليلة الهجرة، وكان عامر بن فهيرة يخرج بغنمه ليمحو آثار أقدام السيدة أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنها) ذات النطاقين، حين تأتي سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه الكريم بالطعام وهما في الغار، وهذا هو معنى التوكل الصحيح القائم على الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله (عز وجل) والثقة في معيته.
على أن من أهم المعاني التي نتعلمها من الهجرة في ضوء ظروف عصرنا الراهن هو ضرورة هجر جماعات الفتنة والضلال، والفرار من أسر هذه الجماعات إلى رحابة الدولة، فإن جماعات الفتنة والضلال إنما تعمل دائمًا على إضعاف كيانات الدولة ومؤسساتها وإقامة كيانات بديلة أو موازية، لأن هذه الجماعات لا تنشأ ولا تقوم إلا على الخراب وأنقاض الدول، فحيث حلت هذه الجماعات حل الخراب والدمار.