التراث الديني والتجديد الفكري
قضية التراث الديني والتجديد الفكري ترتبط ارتباطا وثيقا بقضية الثابت والمتغير , وتعد من أهم القضايا التي يجب الوقوف عندها ببصيرة وأناة وتمييز دقيق ، فالنص المقدس ثابت ، والشروح والحواشي والآراء التي كتبت أو قيلت حول النص اجتهادات قابلة للتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص والمستفتين ، وما كان راجحًا في عصر وفق ما اقتضته المصلحة في ذلك العصر قد يصبح مرجوحًا في عصر آخر إذا تغيرت ظروف هذا العصر وتغير وجه المصلحة فيه، والمُفْتَى به في عصر معين، وفي بيئة معينة، وفي ظل ظروف معينة، قد يصبح غيره أولى منه في الإفتاء به إذا تغيّر العصر، أو تغيّرت البيئة، أو تغيّرت الظروف، ما دام ذلك كله في ضوء الدليل الشرعي المعتبر ، والمقاصد العامة للشريعة ؛ وكان صادرًا عن من هو – أو من هم- أهل للاجتهاد والنظر.
وإذا كانت العقائد عامة والعبادات في جملتها تدخلان في نطاق الثابت , فهي علاقة تتصل بخاصة العبد فيما بينه وبين الله (عز وجل) ، فإن الشريعة الإسلامية ومرونتها قد فتحت أبواب المرونة والسعة واسعة أمام معالجة المتغيرات فيما يتصل بمعاملات الناس بعضهم مع بعض بيعًا وشراءً ، وإقامة مجتمع ، ونظام حكم ، ونحو ذلك ، بما يحقق المصالح المعتبرة للبلاد والعباد .
وفي سبيل ذلك اعتد علماؤنا القدماء إلى حد كبير بالعادة والعرف في معالجة المتغيرات والمستجدات ، يقول الإمام الشاطبي (رحمه الله ) : إن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني , وبالاستقراء وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد ، والأحكام العادية تدور عليها حيثما دارت , فترى الشيء الواحد يُمنَع في حال لا تكون فيه مصلحة , فإذا كان فيه مصلحة جاز .
ويقرر الإمام القرافي (رحمه الله) : إن إِجراءَ الأحكام التي مُدْرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد فهو خلافُ الإِجماع وجهالةٌ في الدّين … بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إِلى بلَدٍ آخر، عوائدُهم على خلافِ عادةِ البلد الذي كنا فيه أفتيناهم بعادةِ بلدهم، ولم نعتبر عادةَ البلد الذي كنا فيه, وكذلك إِذا قَدِمَ علينا أحدٌ من بلدِ عادَتُه مُضَادَّةٌ للبلد الذي نحن فيه لم نُفتِه إِلَّا بعادةِ بلدِه دون عادةِ بلدنا.
ويقول ابن القيم (رحمه الله) : وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ.
ويقول ابن عابدين (رحمه الله) إن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح النص وإما أن تكون ثابته بضرب من الاجتهاد والرأي , وكثير منها يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولا ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد : إنه لا بد من معرفة عادات الناس , فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله.
مما يجعلنا أمام استحقاقات دينية ووطنية وإنسانية تفرض على علماء الأمة المجتهدين مراعاة الظروف والمستجدات في ضوء المقاصد العامة للشرائع السماوية ، ممن هم أهل للاجتهاد والنظر الشرعي المعتبر .