مقام العبودية
مقام العبودية هو مقام الصفاء والنقاء , وكيف لا يكون كذلك وهو مقام التسليم والخضوع والانقياد المطلق لله (عز وجل) , وحسن الاعتماد والتوكل عليه , والاطمئنان بما عنده , بأن يكون الإنسان بما عند الله (عز وجل) أوثق منه بما في يده , مرتكنا إلى قوله تعالى : ” أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ” , وقوله تعالى : ” وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ” , وقوله تعالى : “وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا” , وقوله تعالى: ” وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا” , وقوله تعالى : ” نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ”.
ولما كان مقام العبودية أشرف المقامات اختار نبينا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) أن يكون عبدًا رسولا لا ملكًا رسولا , وكان تشريفه (صلى الله عليه وسلم) بهذا المقام في أعظم رحلة في تاريخ البشرية رحلة الإسراء والمعراج , حيث يقول رب العزة في كتابه العزيز : ” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ” , ويقول سبحانه : ” ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى”, وفي إضافة العبودية إلى ضمير العظمة تشريف وتكريم للحبيب (صلى الله عليه وسلم) , فهو عبد الله ورسوله , واقتصر هنا على مقام العبودية لأنها أشرف مقامات العبد بين يدي ربه .
ثم إن مقام العبودية هو مقام النبيين والمرسلين والصالحين والمخلصين , يقول الحق سبحانه في شأن سيدنا أيوب (عليه السلام) : “إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ” , ويقول سبحانه : “وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ” , ويقول سبحانه: “ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا” , ويقول سبحانه في شأن الخضر (عليه السلام) : “فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا” .
وإذا كانت الرسالات قد ختمت ببعثة الهادي البشير محمد (صلى الله عليه وسلم) فإن مقام العبودية يظل باب رحمة واسعة لعباد الله المخلصين إلى يوم القيامة .
على أننا يجب أن نعي الفرق بين العبادة والعبودية , فالأولى أخص والثانية أعم, العبودية هي أن تكون سائر حركاتك وسكناتك لله (عز وجل) , فقد كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه , ولما سألته أم المؤمنين السيدة عائشة (رضي الله عنها) : يا رسول الله أتصنعُ هذا ، وقد غُفِرَ لك ما تقدم مِن ذنبِك وما تأخر , فقال (صلى الله عليه وسلم) : “يا عائشةُ أفلا أكون عبدًا شكورا” .
وقد قال بعض العارفين: من ادعى العبودية وله مراد باقٍ فهو كاذب في دعواه , إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته وقام بمراد سيده , فلمقام العبودية من التعبد والخضوع , والتذلل والخشوع , ورفع الأيدي وسفح الدموع بين يدي عالم السر والنجوى وكاشف الضر والبلوى , أحوال تدرك ولا توصف , وأسرار لا يباح بها , فالعبودية هي مقام الأصفياء لا الأدعياء .