فقـه المـواطنـة
لا شك أن كثيرًا من المشكلات العصرية وحالات الشقاق التي تصل إلى حد الاحتراب والاقتتال المجتمعي أو الدولي أحيانًا , يمكن أن يحل الكثير منها بإقرار مبدأ المواطنة المتكافئة ، وترسيخ فقه المواطنة بديلا لفقه الأقلية والأكثرية ، فمصطلح الأقلية والأكثرية يشعرك ابتداء بأن هناك فريقين ، أحدهما قوي والآخر ضعيف ولو بالمقياس العددي ، أما مبدأ المواطنة المتكافئة فتذوب فيه العصبيات الدينية والعرقية والطائفية والمذهبية والقبلية ، وسائر العصبيات الخاطئة المدمرة .
كما أن المواطنة الحقيقية تعني حسن الولاء والانتماء للوطن ، والحرص على أمن الدولة الوطنية ، واستقرارها ، وتقدمها ، ونهضتها ، ورقيها، وتعني الدولة الوطنية احترام عقد المواطنة بين الشخص والدولة , وتعني الالتزام الكامل بالحقوق والواجبات المتكافئة بين أبناء الوطن جميعا دون أي تفرقة على أساس الدين أو اللون أو العرق أو الجنس أو اللغة .
وأن مشروعية الدولة الوطنية أمر غير قابل للجدل أو التشكيك , بل هو أصل راسخ لا غنى عنه في واقعنا المعاصر , حتى أكد بعض العلماء والمفكرين أن الدفاع عن الأوطان مقدم على الدفاع عن الأديان ؛ لأن الدين لا بد له من وطن يحمله ويحميه , وإلا لما قرر الفقهاء أن العدو إذا دخل بلدًا من بلاد المسلمين صار الجهاد ودفع العدو فرض عين على أهل هذا البلد رجالهم ونسائهم, كبيرهم وصغيرهم , قويهم وضعيفهم , مسلحهم وأعزلهم , كل وفق استطاعته ومكنته , حتى لو فنوا جميعا , ولو لم يكن الدفاع عن الديار مقصدًا من أهم مقاصد الشرع لكان لهم أن يتركوا الأوطان وأن ينجوا بأنفسهم وبدينهم.
ونؤكد أن الوعي بالوطن والتحديات التي تواجه الدولة الوطنية يقتضي الإحاطة والإلمام بما يحاك له من مؤامرات تستهدف إنهاك الدولة , وبخطورة الإرهابيين والعملاء والخونة , والعمل على تخليص الوطن من شرورهم وآثامهم.
وأن العمل على تقوية شوكة الدولة الوطنية وترسيخ دعائمها مطلب شرعي ووطني ، وأن كل من يعمل على تقويض بنيان الدولة أو تعطيل مسيرتها ، أو تدمير بناها التحتية ، أو ترويع الآمنين بها ، إنما هو مجرم في حق دينه ووطنه معًا.
على أن المواطنة ليست منة ولا فضلًا من أحد على أحد ، إنما هي حق ، بل التزامات وحقوق متكافئة ومتساوية ، فكل حق يقابله واجب ، ولا شك أن مبدأ الحق والواجب ، أو الحق مقابل الواجب أحد أهم المبادئ العادلة التي تسهم في إصلاح المجتمع ، سواء أكانت في الحقوق والواجبات المتبادلة بين الآباء والأبناء ، أم بين الأزواج ، أم بين الجيران ، أم بين الأصدقاء ، أم بين الشركاء في الوطن ، أم بين المواطن والدولة ، أم بين العمال وأرباب العمل، أم بين المعلم والمتعلم.
فما أحوجنا إلى ترسيخ مبدأ الحق مقابل الواجب في كل مجالات حياتنا وعلاقاتنا ، إذ لا يمكن للحياة ولا العلاقات أن تستقيم من جانب واحد ، فيكون أحد الشقين معتدلا والآخر مائلا ، إنما تستقيم الأمور باستواء الجانبين معا ، والوفاء بالحقوق والواجبات معا ، نؤدي الذي علينا حتى يبارك الله (عز وجل) في الذي لنا.
على أن فقه المواطنة يقتضي إعلاء مبدأ الكفاءة ، وإتاحة الفرص المتساوية بين المواطنين جميعًا دون تمييز بينهم ، ففي مجال العمل العام والعمل المجتمعي لا صراعات ولا إقصاءات على أساس الدين أو الجنس أو العرق ، فالفرص متساوية , والواجبات متكافئة.
ومن أهم ما يجب أن نلفت النظر إليه هو دمج واستيعاب والعناية بكبار السن وبذوي الاحتياجات الخاصة باعتبارهم مواطنين كاملي الحقوق والواجبات , وعدم النظر إلى أي من ذوي الاحتياجات الخاصة نظرة تمييز ، ولهذا أطلقنا مع المجلس القومي لشئون الإعاقة مبادرة “لا للتمييز” , فالمجتمع بكل أبنائه , بتكافلهم , وتكاملهم , وتعاونهم , ومشاركتهم جميعا في بنائه , وكون كل فرد من أفراده إضافة إيجابية لا رقما مخصوما من رصيده , فهو لهم جميعا وبهم جميعا , وبهذه الروح تبنى الأوطان وتزدهر وتتقدم حتى تكون في مصاف الأمم الراقية المتقدمة , وهو ما يجب أن نأخذ أنفسنا به حتى نصل بمصرنا العزيزة إلى المكانة التي تستحقها في مصاف الدول المتقدمة.