نحو نظرية عربية معاصرة في النقد الأدبي
لا يمكن أن نظل عالة على غيرنا لا في الفكر ولا في الثقافة ولا في أي مجال من مجالات الحياة ، إنما علينا أن نفكر ونفكر ، ونعمل ونعمل ، ونتقن ونبدع ، حتى تكون لنا خصوصيتنا في كل المجالات العلمية والفكرية والتطبيقية .
ولا شك أن ثمة جهودًا كبيرة بذلت في اتجاه بناء نظرية عربية معاصرة في النقد الأدبي ، تجمع بين الأصالة والمعاصرة ، لا تنسلخ من ماضيها ولا تتنكر له ، ولا تنعزل عن حاضرها وواقعها ولا ترفضه ، إنما تأخذ من هذا وذاك النافع والمفيد الذي يتسق مع قيمنا وحضارتنا ، ويشكل درعًا حصينة واقية لهويتنا الثقافية في زمن العولمة والتيارات الجارفة.
على أن العلاقة بين التراث والمعاصرة في الفكر النقدي ليست علاقة عداء أو قطيعة ، ولن تكون ، ولا ينبغي أن تكون ، وأن الوسطية التي نحملها منهجًا ثابتًا في كل مناحي حياتنا ، ونجعل منها ميزانًا دقيقًا نزن بها أمورنا كلها ، إنما هي منهج ثابت ننطلق منه في كل جوانب حياتنا العلمية والفكرية والفلسفية والتطبيقية ، لا نحيد عن هذا المنهج قيد أنملة ، فقد قالوا : لكل شيء طرفان ووسط ، فإن أنت أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر واختل توازنه ، وإن أنت أمسكت بالوسط استقام لك الطرفان ، ونحن مستمسكون بهذا الوسط وتلك الوسطية ، لا إفراط ولا تفريط , ولا غلو ولا تقصير.
وأؤكد أننا لا يمكن أن ننسلخ من تراثنا الفكري أو النقدي العريق أو نقف منه موقف القطيعة ، ونعمل في الهواء الطلق ، فمن لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل ، بل علينا أن نأخذ من الماضي العريق النافع والمفيد الذي ننطلق به في الحاضر ونؤسس به للمستقبل .
وإننا لو أعدنا قراءة تراثنا النقدي قراءة واعية منصفة لوقفنا على كثير من كنوزه ونفائسه ، واتضح لنا – بما لا يدع مجالاً للشك – أن الحياة الأدبية العربية في عصرها الذهبي كانت تموج بتيارات وحركات نقدية لا تقل حيوية وأهمية عن حركة الحياة الأدبية والنقدية في القرنين العشرين والحادي والعشرين سواء في أوروبا أم في عالمنا العربي ، وأن القضايا التي تناولها النقاد العرب القدماء لم تمت بموتهم، فإن الكثير منها ما زال حاضرًا بقوة في ثقافتنا الأدبية والنقدية .
على أننا لا نتعصب للقديــم لمجــرد قدمــه ، ولا نسـلـم زمام عقلنـا للتقليد الأعمى دون أن نمعــن النظــر فيما ينقــل إلينــا أو يلقى علينــا ، فقـد ميز الله (عز وجل) الإنسان عن سائر الخلق بالعقل والفكر والتأمل والتدبر والتمييز ، ونعى على من أهملوا هذه النعم ولم يوفوها حقها ، فقال (سبحانه) : “أَفَلَا يَعْقِلُونَ” (يس: 68)، وقال تعالى : “أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ” (الأنعام: 50) ، ويقول (سبحانه) : “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى“ﱠ )طه: 54( ، ويقول (عز وجل) : ” وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ” [العنكبوت: 43]، ولما نزل قوله تعالى : ” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ “ﱠ (آل عمران: 190) قال نبينا )صلى الله عليه وسلم) : “ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها” (رواه ابن حبان في صحيحه).
وكما أننا لا يمكن أن نرفض القديم لقدمه, لا يمكن أيضًا أن نرفض الحديث لحداثته, أو لكونه ثقافة الآخر أو المختلف , أو كونه ثقافة وافدة على ثقافتنا , أو أن ندعو إلى الانكفاء على الذات والتمحور أو التقوقع حولها, فهذا عين الجمود والتحجر الذي نواجهه بكل قوة وحسم , فثقافة أخرى تعني عقلاً آخر , وإضافة جديدة , ومادة جديرة بالاعتبار والتأمل والنظر , بل إنني لأدعو إلى إعمال الفكر وإمعان النظر في كل ما هو عصري أو حديث أو جديد , فنأخذ منه النافع والمثمر والمفيد , وما يشكل إضافة حقيقية لثقافتنا , ويتناسب مع قيمنا وأخلاقنا وحضارتنا , ونتجاوز ما لا يتسق مع هويتنا الثقافية وقيمنا الراسخة.
كما يجب أيضًا ألا نتخلف عن الركب , فنتشبث بآراء ونظريات ثبت عدم جدواها عند الغربيين أنفسهم , فدعا نقادهم إلى ضرورة مراجعتها , أو تخلوا هم عنها وبحثوا عن نظريات أو رؤى أخرى جديدة رأوها أكثر دقةً وملاءمةً ونفعًا , أو وجدوا فيها خيط نجاة جديد يخلصهم من تعقيدات وفلسفات بعض النظريات التي خرجت بالنقد الأدبي عن لبابه إلى معالجات انحرفت بالنص الأدبي عن مساره الطبيعي إلى مسارات أخرى ربما كان من الأجدى تطبيقها على علوم وفنون أخرى غير النص الأدبي، إذ تبقى عظمة وخصوصية النص الأدبي والنقدي في كون كل منهما نصًّا ينطق أدبًا ويفيض أدبًا ويشع أدبًا قبل أي شيء آخر.