في رحاب سورة مريم عليها السلام (2)
كما تحدثت السورة الكريمة عن قصة سيدنا زكريا وسيدنا يحيى (عليهما السلام) , وعن قصة السيدة مريم وسيدنا عيسى (عليهما السلام) , تحدثت كذلك عن قصة سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل (عليهما السلام) , وهناك أكثر من رابط , فإذا كانت السورة الكريمة قد تحدثت عن رزق الله الولد لسيدنا زكريا (عليه السلام) مع كون امرأته عاقرًا وقد بلغ من الكبر عتيا , ورزق مريم (عليها السلام) الولد بلا أب كآية وعلامة من دلائل قدرته سبحانه وتعالى , فإن الحق سبحانه وتعالى قد حدثنا عن قصة إبراهيم (عليه السلام) , وقد رزقه الله الولد على تقدم سنه أيضًا , فعندما صم قومه آذانهم عن الاستجابة لدعوته , وأرادوا به كيدًا لم يجد بدًا من اعتزالهم وما يعبدون من دون الله , يقول الحق سبحانه: ” فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا” (مريم : 49) , وكان ذلك على تقدم سنه وسن زوجه على نحو ما قص علينا القرآن الكريم من شأنه عليه (عليه السلام) وشأن امرأته عندما جاءتهما البشرى بالولد , حيث يقول الحق سبحانه : “وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ” (هود : 71-73) .
وقد نقلت لنا السورة الكريمة الحوار الذي دار بين إبراهيم (عليه السلام) وأبيه , حيث يقول الحق سبحانه : ” وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا” (مريم : 41-42) , وفي التعبير بنفي السمع والبصر أكبر دلالة على عجز تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها , فإذا كانت لا تسمع أصلا ولا تبصر أصلا فمن المستحيل أن تنفع أو تضر أو تغني عن من يعبدونها شيئًا .
وفي أدب جم يقول إبراهيم (عليه السلام) لأبيه: ” إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا” (مريم : 43) فلم ينسب حصول العلم له إلى نفسه , ولم يسم أباه بالجهل أو عدم العلم , إنما اعتبر أن هذا العلم منحة من الله تعالى له , وأن ذلك لا ينتقص من قدر أبيه , لذا فهو ينبه والده ويحذره من عبادة الشيطان أو اتباعه لما لذلك من سوء العاقبة وتعرضه لغضب الرحمن (عز وجل) قائلاً : “يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا” (مريم : 44) فهو يتحدث معه بدافع الخوف عليه وطلب الرحمة له .
واستمر الأب في عناده وجحوده: ” قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا” (مريم : 46) , غير أن إبراهيم (عليه السلام) لم يواجه هذا التهديد إلا بالأدب الجم وحفظ حق الأبوة , ” قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا” (مريم : 47) , وظل عليه السلام على وعده حتى جاءه النهي عن الاستغفار لمشرك فوقف عند حد الله وأمره , حيث يقول الحق سبحانه : ” وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ” (التوبة : 114) .
ولم يجد إبراهيم مع عناد قومه وإصرارهم على الكفر والجحود وعبادة الأوثان والكيد له بدًا من اعتزالهم وما يعبدون من دون الله , فتركهم إيثارًا لدعوته , فكان الفضل والعوض له (عليه السلام) عظيمًا , إذ عوضه الله خيرًا منهم بالولد الصالح : ” فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا” (مريم : 49) , فمن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه , وأي عوض هذا ؟ إنه الذرية الصالحة ” وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا” , فقد بُشر (عليه السلام) بالولد وولد الولد ورُزق بهما , وإلى جانب البشرى بإسحاق ويعقوب كانت المنة أيضًا بالولد الصالح نبي الله إسماعيل (عليه السلام) الذي وصفه القرآن الكريم بصدق الوعد والنبوة والرسالة , فكان نعم الولد لأبيه , حيث يقول الحق سبحانه: ” وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا” (مريم : 54-55) , ويصور القرآن الكريم مدى طاعته لأبيه وبره به فيقول سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم (عليه السلام) : ” يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ” (الصافات : 102) , فأي عوض وأي بر أعظم من هذا العوض وهذا البر ؟!