حتمية التكامل الثقافي
لا شك أن انغلاق أو انسداد الأفق الثقافي يشكل معضلا ثقافيا كبيرًا يجب العمل على حله من خلال التلاقي والتكامل الفكري والمعرفي ، حتى نتخلص من حالات التنافر الثقافي ، نتيجة ضيق أو انسداد أو انغلاق الأفق الثقافي ، فدارسو العلوم الشرعية في حاجة ملحة إلى التزود الكافي بالعلوم العصرية سواء من علم النفس ، أم علم الاجتماع ، أم علم الجمال ، أم علوم الإدارة والتنمية البشرية ، وتحديات ومفاهيم الأمن القومي ، والقضايا الطبية العصرية ، والقضايا الاقتصادية العصرية ، وقضايا العلوم السياسية ، والتواصل الحضاري ، مع الإلمام بطرف واسع من التاريخ والجغرافيا واللغات الأجنبية ، والثقافة العامة ، بما يجعل الشخص مؤهلاً للتعامل مع كل هذه المعطيات الثقافية المجتمعية بروح منفتحة ، متسعة الأفق للحوار والنقاش وتقبل الرأي والرأي الآخر ، وهو ما نسير عليه في إعداد برامجنا التدريبية للسادة الأئمة والواعظات ، ونجعله متطلبًا رئيسًا في اختيار جميع القيادات علمية كانت أو إدارية .
وفي المقابل نؤمل أن تتسع هذه الرؤى والمدارك للتبادل الثقافي والمعرفي بين المؤسسات الثقافية والتربوية والعلمية وسائر مؤسسات الدولة بما يهيئ لإحداث حالة من التلاقي والتكامل الثقافي والمعرفي عوضًا عن تبادل الاتهامات بالجمود والانغلاق وعدم القدرة على التواصل المثمر مع بعضنا البعض .
ونؤمل أن يعود المكون الثقافي العام ليشكل النسبة التي تليق به في جميع المراحل التعليمية والبرامج التدريبية والتثقيفية والتربوية ، وبما يسهم في إعادة تكوين الشخصية المصرية التي يجب أن نعمل جميعًا إلى استعادة بنائها الحضاري ، المنضبط سلوكيًّا ، المُنتِجُ حضاريًّا ، بوضع منظومة علمية وفكرية وسلوكية تنتج شخصية متكاملة شديدة الوطنية ، شديدة الاتزان ، قادرة على صنع الحضارة ، فضلاً عن استيعاب جميع مناحي التقدم ، محليًّا ، وإقليميًّا ، ودوليًّا ، بما يعيد للأنموذج البشري المصري مكانه ومكانته ، في ضوء ما نمتلكه من رصيد حضاري وثقافي نادر بل يكاد يكون فريدًا ، فلنا من تاريخنا وحضارتنا الإسلامية العريقة ، وحضارتنا المصرية الضاربة في أعماق التاريخ لأكثر من سبعة آلاف عام ما يمكن أن نؤسس وأن نبني عليه بناءً حضاريًّا وإنسانيًّا فريدًا ، ولا سيما أن الثقافة أمر تراكمي والحضارة جينات بعضها يكاد يكون وراثيًّا ، إذ إن الثقافة والحضارة لا تقومان على غير أساس ، ولا يمكن أن تنشآ هكذا في الهواء الطلق دون أسس وقواعد ومقومات متينة .
وبما أن أسسنا وقواعدنا ومقومات الحضارة الثقافية عميقة وراسخة ومتجذرة في نفوسنا وحضارتنا تجذرًا فريدًا ، فإنه بمجرد نفض الغبار عن معادننا النفيسة ، وبشيء من الأناة والصبر والجهد والتخطيط يمكن أن نحدث نقلة نوعية ليس في بناء الحضارة المصرية فحسب إنما في بناء الحضارة الإنسانية ، ولا سيما أننا أمة اقرأ ، أمة أول آية نزلت عليها هي قوله تعالى : ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ” (العلق : 1-5) ، أمة تعلي شأن العلم والعلماء والفكر والثقافة ، حيث يقول الحق سبحانه : ” إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ” (فاطر:28) ، ويقول الحق سبحانه : ” يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ” (المجادلة : 11) ، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ” (رواه : مسلم) ، فما أحوجنا إلى التزود بالعلم الصحيح ، والثقافة الشاملة ، التي تسهم في بناء الإنسان وتكوين شخصيته السوية ، وصنع الحضارة ، وحمل لوائها من جديد.