:أهم الأخبارمقالات

حروب الجيل الخامس

    التاريخ شاهد ، والأيام شاهدة ، أن كل انتصار عسكري كان وراءه قائد شجاع، وآخرون مؤمنون بفكره ، واثقون فيه ، داعمون له ، سواء من زملائه الذين يكونون خير سند له ، أم من أصحاب الفكر والرأي الذين يعدون خير داعم فكري ومعنوي له.

   وفي عصرنا الحاضر تغيرت معطيات كثيرة ، وبخاصة في نظم الحرب وأساليبها ، فلم تعد الحرب أحادية البعد ، أي أنها لم تعد عسكرية محضة ، أو أمنية محضة ، ولا حتى مخابراتية محضة بالمفهوم التقليدي للنظم المخابراتية القديمة ، فقد تطورت أساليب حروب الجيل الرابع، ودخلنا دون أن يشعر كثيرون في ما يمكن أن يطلق عليه حروب الجيل الخامس التي جرى ويجري تطبيقها فيما أطلق عليه زورًا وبهتانًا الربيع العربي المشئوم ، حتى صارت كلمة الربيع التي توحي بالبهجة وتشيع البسمة على حد قول البحتري :  “أتاك الربيع الطلق يختـــال ضاحكًا …. من الحسن حتــــى كاد أن يتبسما” .

   توحي بعكس ذلك من الشؤم والخراب والتدمير ، وبالطبع لم يكن اختيار مصطلح الربيع العربي عفويًا أو مصادفة ، إنما كان مقصودًا لإحداث لون من التعمية أو التعتيم ، وتحقيق ضرب من المخادعة ، على شاكلة مصطلحات الفوضى الخلاقة ، والفوضى البناءة ، بدلا من الفوضى المدمرة ، مع أن الفوضى هي الفوضى لا تخلف غير الخراب والدماء .

   وطبعًا لم يكن الربيع ربيعًا ، لأنه لم يخلف غير الخراب والدمار والدماء ، وتجاوزت الحيل والأساليب القذرة المبتكرة لإسقاط منطقتنا وإفشال دولها كل ما يمكن أن يطلق عليه حروب الجيل الرابع ، إلى ما يمكن أن نعتبره حالة خاصة صنعت لإنهاك منطقتنا فيما يمكن أن نطلق عليه حروب الجيل الخامس ، وهي الحروب الأكثر قذارة في تاريخ الإنسانية ، لاستخدامها كل الوسائل غير المشروعة من توظيف الإرهاب وتبني الإرهابيين ودعمهم تحت مسمى حربهم ، وتعظيم أمر الخيانات ، وشراء الولاءات ، ومنهجة استخدام سلاح الشائعات الذي صار فنًا يكاد يدرس بل يُدرس ويتم التدريب عليه من قبل بعض الجهات المشبوهة ، وتُوظف له الكتائب الإلكترونية ، مع استخدام أقصى وسائل الحصار والضغط السياسي والاقتصادي والنفسي ، والمحاولات المستميتة في إثارة الشعوب وتأليبها على حكامها ، وتشويه الرموز والمكتسبات الوطنية ، والتشكيك في كل الإنجازات والتهوين من أمرها ، وتحالف الجماعات والقوى الإرهابية ، ومحاولات اختراق المؤسسات ، وإثارة أي نعرات تؤدي إلى الفرقة بآلية ممنهجة وغير مسبوقة ، والتوظيف غير المسبوق للمعلومة ، وتجنيد بعض وسائل التواصل الحديثة بل الكثير منها ، واللعب على وتر الحاجة والمصالح الآنية التي لا يحتمل بعضها الصبر عليه ، ومحاولة كسر إرادة الشعوب ، والعمل على كسر هيبة الحكام ، والتشكيك في العلماء والمفكرين والمثقفين الوطنيين ، ودعم مناوئيهم ، وتوجيه رسائل التهديد المبطنة تارة والصريحة أخرى للمتمسكين بمبادئهم المخلصين لأوطانهم  ، بإبراز مصائر من لم يسر في الركب وينضم للمخطط الآثم ، ويرفع راية التسليم ويركع ويُركّع من خلفه ، مما جعل قضية الصمود في وجه كل هذه الموجات العاتية أمرًا استثنائيًا يحتاج إلى عقيدة إيمانية ووطنية فولاذية ، وثقة في الله غير محدودة .

    ولم يعد من الوطنية ولا الحكمة ولا الشعور بالمسئولية ولا حتى المصلحة الوطنية أوالعامة ولا حتى المصلحة الشخصية أن يُترك القادة العسكريون والأمنيون وحدهم في ميدان هذه الحرب التي لم تعد تقليدية تعتمد على شجاعة المقاتل وحدها ، بل صار واجبًا حتميًا  شرعيًا ووطنيًا أن ندعم قياداتنا السياسية وقواتنا المسلحة الباسلة وشرطتنا بكل ما نملك من وسائل الدعم مع تأكيدنا على مشروعية الدولة الوطنية في مقابل ما تسوقه الجماعات العميلة الخائنة التي تتاجر بدين الله (عز وجل) من عدم الاعتداد بحدودالدول ولا استقلالها ، وتراها حدودًا وهمية لا قيمة لها ، بل ترى أوطانها حفنة من التراب لا قيمة لها ، وهو ما لا يخدم  إلا مصلحة أعدائنا المتربصين بنا الذين يعملون على زعزعة الانتماءات الوطنية والقومية .

     في حين أننا نؤكد أن الأمر على العكس تمامًا ، فكل ما يدعم صمود الدولة الوطنية ويدعم بناءها ويعزز مكانتها هو من صلب الدين ، وكل ما يهدد كيانها وينال من وجودها أو يسعى في أطرافها فسادًا أو إفسادًا إنما يتنافى مع كل مبادئ الدين والقيم والوطنية , ويعد خيانة للدين والوطن , وعمالة لأعدائهما المتربصين بنا .

    على أن المسئولية الأكبر إنما تقع على عاتق علماء الدين والمثقفين والإعلاميين والكتاب ، لما لكل هؤلاء من أثر بالغ في صناعة الوعي , ومواجهة التحديات , وتفنيد الشائعات , وإبراز الحقائق , وكشف حجم المؤامرات , وهو ما يعيه ويتبناه كثير من كتابنا ومثقفينا وإعلاميينا الوطنيين جيدًا ، ويعملون على التوعية به ما وسعهم السبيل , غير أننا في حاجة إلى تحويل هذه الظواهر الإيجابية إلى حالة وعي عام واستنارة عامة وتوعية شاملة أو قل تعبئة فكرية عامة , تتوازن وحجم ما يحاك لأوطاننا من مؤامرات لم تعد خفية على لبيب ولا غير لبيب.

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى