بلاغة القرآن الكريم وأثرها في تكوين الداعية
من خلال تجربة طويلة في مجال العمل الدعوي أستطيع أن أؤكد أن أكثر أساليب الدعوة تأثيرًا في النفوس هي تلك التي تنطلق من بيان القرآن الكريم وأوجه إعجازه وحسن فهم مقاصده ومراميه , ذلك أن المتلقي للنص القرآني ، إنما يتلقى من المَعين الأصفى , ذلك أن القرآن الكريم إنما هو كلام رب العالمين الذي لا يناله التحريف ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , وهو الذي يهجم عليك الحسن منه دفعة واحدة , فلا تدري أجاءك الحسن من جهة لفظه أم من جهة معناه ، إذ لا تكاد الألفاظ تصل إلى الآذان حتى تكون المعاني قد وصلت إلى القلوب , فلم تلبث الجن إذ سمعته أن قالوا : ” إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا” , وما أن سمعه الوليد بن المغيرة حتى قال : “والله إن له لحلاوة , وإن عليه لطلاوة , وإن أعلاه لمثمر , وإن أسفله لمغدق , وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه” .
وهو القول الفصل , ليس بالهزل , من قال به صدق , ومن حكم به عدل , لا يشبع منه العلماء , ولا يخلق عن كثرة الرد , ولا تنقضي عجائبه , وما أن سمع أحد الأعراب قوله تعالى : ” وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” , حتى انطلق قائلا : إن هذا لهو كلام رب العالمين لا يشبه كلام المخلوقين , وإلا فمن ذا الذي يأمر الأرض أن تبلع ماءها فتبلع ؟ ويأمر السماء أن تقلع عن إنزال الماء فتقلع ؟ إنه رب العالمين ولا أحد سواه.
وسمع الأصمعي فتاة بليغة فصيحة , فقال لها : ما أبلغك وما أفصحك , فقالت : أي بلاغة وأي فصاحة بعد بلاغة وفصاحة كتاب الله (عز وجل) , فقد جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين , وذلك حيث يقول سبحانه : ” وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ”.
وإذا كان الأمر كذلك فإن إبراز أوجه العظمة والبلاغة والفصاحة والإعجاز في القرآن الكريم إنما يسهم في ترسيخ القيم الإيمانية والأخلاقية والإنسانية , شريطة أن نحسن فهم مرامي النص , وأن نحسن أداءه , وأن نحسن توصيل تلك المعاني , لنجعل المتلقي يعيش تلك المعاني حسًا وروحًا وتأثرًا ومعايشة , ولا يتأتى ذلك إلا إذا كان الداعية أو الخطيب قدوة ينقل من إحساسه ومشاعره الإيمانية ما يؤثر في وجدان المتلقي , وأن يتمتع بقدر من البلاغة والفصاحة والبيان يجعله قادرًا على حسن توصيل تلك المعاني والدلالات التي يحملها النص الكريم.
مؤكدين أن حسن فهم النص وتأصيل وترسيخ هذا الفهم لدى الشباب أحد أهم محاور مواجهة التطرف الفكري , مما يتطلب نشر الثقافة الرصينة القادرة على فهم نصوص الكتاب والسنة فهمًا دقيقًا يغلق الأبواب ويوصدها أمام المتطرفين الذين يريدون استقطاب خيرة شباب الأمة من خلال بث ونشر مفاهيمهم الخاطئة التي نعمل بما أوتينا من قوة على مواجهتها وتصحيحها , وتحصين شبابنا من شرورها , مؤمنين أن التمكن من اللغة والثراء الثقافي ودقة فهم النص القرآني والنبوي أحد أهم محاور المواجهة وتصحيح المفاهيم , ففهم الكتاب والسنة فهما صحيحًا فرض واجب , ولا يتم إلا بمعرفة اللغة العربية والتمكن منها والوقوف على جوانب البلاغة والإعجاز سواء في النص القرآني أم البيان النبوي , وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب , ومن هنا يأتي اهتمامنا بلغة القرآن الكريم وبلاغته وأسرار بيانه ووجوه إعجازه في مجال تدريب الأئمة والخطباء.