نحو خطاب عقلاني رشيد
نحن في حاجة أن نفكر ونفكر ، ثم نفكر ونفكر ، وأن نتأمل ونتدبر ، فالتفكير فريضة دينية حيث يقول الحق سبحانه : ” فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ” (الحشر :2)، ويقول سبحانه : ” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ” (الحج : 46)، ويقول سبحانه : ” قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ” (الأنعام : 11)، ويقول سبحانه : ” أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ” (الأعراف : 184) ، ويقول سبحانه : ” قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ” (يونس :101) ، ولما نزل قول الله تعالى : ” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ” (آل عمران : 190-192) ، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) :”ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها” .
وما أضاع أمتنا وأدى إلى ترهل ثقافتنا سوى العقول الاستسلامية أو الجامدة ، وغلبة العقلية المجترّة المعتمدة على مجرد التلقين والحفظ على العقلية المفكرة المبدعة أو الناقدة ، حتى صار الحذر من الجديد آفة ربما يمكن أن نطلق عليها (التجديد فوبيا) ، وليس ذلك وليد اليوم ، فقضية الصراع بين التعصب القديم والإيمان بالتجديد متعمقة في التاريخ الثقافي ، فقد روي أن رجلاً أنشد الأصمعي قوله :
هل إلــى نظــرةٍ إليـــكِ سبيــــــــلُ |
فيُروى الصَّدَى ويشفى الغليـــــــلُ |
إن ما قــلَّ منــــك يكثُـــــرُ عنــــدي |
وكثيـــرٌ ممــــا تُحِــــــبُّ القليــــــلُ |
فقال الأصمعي : إن هذا لهو الديباج الخسرواني , أي الشعر الجيد الذي يمتدح ويشاد به , ثم استرسل الأصمعي : لمن تنشدني , فقال الشاعر : إنهما من شعره أنشدهما لليلته , وهنا غير الأصمعي رأيه على الفور قائلا : إن أثر التكلف عليهما لبيّن , وما ذاك إلا لعصبيته للقديم دون سواه بغض النظر عن الجودة وعدمها .
إننا لفي حاجة إلى خطاب عقلاني رشيد في الفكر الديني والمجال الثقافي والعلمي والتربوي لنكسر حالة الجمود الكامنة داخل نفوس كثيرين ، وننطلق معًا إلى فضاء أرحب وأوسع من العلم والفكر والتأمل والتدبر ، والاجتهاد والنظر ، دون خوف ولا وجل ، وبلا أدنى توجس أو تردد ، طالما أننا نعرف غايتنا ، ونحافظ على ثوابتنا الشرعية وقيمنا المجتمعية دون إفراط أو تفريط .
الخطاب العقلي الرشيد هو الذي يحترم عقلية المخاطب ، ويتخير من الخطاب ما يرى أن المتلقي قادر على استيعابه فهمًا ولغة ، وقد روي أن الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) كان يقول : خاطبوا الناس على قدر عقولهم ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ وقد قالوا : ليس كل ما يُعلم يقال ، وكان الشافعي رحمه الله يقول :
فــــــإن يسَّــر الله الكريـم بفضلـــــــه |
وقابلتُ أهـلا للعلــــوم ولِلْحِكَـــــــمْ |
بثثـت علومي واستفـدت وِدادهـم |
وإلا فمخـزون لـــــــــديَّ ومُكتَـتَـــــمْ |
فمن منح الجهـال علمـا أضاعـــــــه |
ومن منع المستوجبيـن فقـد ظَلَــــمْ |
ويجب أن نتخلص جميعًا وسريعًا من العصبيات الفكرية والمذهبية والطائفية والأيدلوجية ، وأن نتحلى باحترام نتاج عقل الآخر والمختلف ، وقدكان الشافعي رحمه الله تعالى يقول : رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ، بل إن الصواب في بعض المسائل قد يتعدد ، فيكون كلا الرأيين صوابًا غير أن أحدهما قد يكون راجحًا والآخر مرجوحًا ولو باعتبار الزمان أو المكان أو الحال ، فما يكون راجحًا في زمان قد يصبح مرجوحًا في زمان آخر ، وما يكون راجحًا بالنظر إلى طبيعة البيئة والمكان قد يكون مرجوحًا في مكان آخر أو بيئة أخرى ، وعلينا أن ندرك أن الأقوال الراجحة ليست معصومة ، وأن الأقوال المرجوحة ليست مهدومة ، طالما أن لصاحبها حظًا من الاجتهاد والنظر والدليل أو الرأي المعتبر .