حديث معاذ عمدة الاجتهاد
عندما بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) سيدنا مُعَاذ بن جبل إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : ” كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ ” ، قَالَ : أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ . قَالَ : ” فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ في كِتَابِ اللَّهِ؟ ” . قَالَ : أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم-. قَالَ : ” فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ في سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ “. قَالَ : أَجْتَهِدُ رأيي لاَ آلُو . قَالَ : فَضَرَبَ بِيَدِهِ في صدري وَقَالَ : ” الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ ” ، والمراد بقوله : “لا آلو” أي لا أقصر في الاجتهاد والنظر في المسألة .
فلا شك أن هذا الحديث النبوي الشريف يعد عمدة في فتح باب الاجتهاد وإعمال العقل إلى يوم القيامة ، حيث بدأ سيدنا معاذ بن جبل (رضي الله عنه) بالنظر في كتاب الله فإن وجد في المسألة مناط الفتوى حكمًا من كتاب الله تعالى ينطبق عليها واقعًا حَكَمَ فيها بما ورد في كتاب الله سواء أكان حكمًا قطعي الثبوت والدلالة أم كان حكمًا قطعي الثبوت ظني الدلالة أي مما يحتاج إلى إعمال العقل في استخلاص الحكم ، مع تحقق المناط وانطباق النص على الواقع ، فإن لم يجد في المسألة نصَّا قرآنيَّا لا قطعي الدلالة ولا ظنيها انتقل إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سواء أكان الانتقال لتفسير النص القرآني أو بيان مجمله أو تقييد مطلقه أو تخصيص عمومه ، أم كان حديثًا منشئًا لحكم تفصيلي في ضوء المقاصد العامة للتشريع المتضمنة في كتاب الله ، فإن لم يجد حديثًا قاطعًا بالحكم في المسألة أو لم يجد فيها حديثًا أصلاً ، عمد إلى إعمال العقل وقياس الأشباه والنظائر ، واجتهد رأيه دون تقصير .
ولنا في ذلك وقفات .
الأولى : أن سيدنا معاذ بن جبل (رضي الله عنه)كان قد بعثه النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى اليمن في حياته (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يقل له سيدنا معاذ إذا لم أجد حكمًا في المسألة في كتاب الله تعالى ، ولا في سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنتظر أو أتوقف حتى أرجع إليك أو سأرسل إليك رسولاً ، ولم يطلب النبي (صلى الله عليه وسلم) منه ذلك ، بل أطلق له حرية الاجتهاد في حياته (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يطلب منه حتى مراجعته وعرض ما يقضي به عليه ، بل ترك له مساحة واسعة للاجتهاد والنظر ، قائلا له : “الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسوله الله ” .
الثانية : أن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال : “إِنَّ اللَّهَ (عز وجل) يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا” وطبيعي أن هذا التجديد لا يكون إلا بالاجتهاد والنظر ومراعاة ظروف العصر ومستجداته ، وقراءة الواقع قراءة جديدة في ضوء المقاصد العامة للتشريع .
الثالثة : أن الله (عزوجل) لم يخص بالاجتهاد ، ولا بالفقه ولا بالعلم ولا بالحكم ولا بالبلاغة ولا بالبيان قومًا دون قوم ، أو رجالا دون رجال ، أو زمانًا دون زمان ، إنما جعل الخير في أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) ، إلى يوم القيامة ، وفتح باب الاجتهاد والنظر أمامهم إلى يوم الدين.
الوقفة الرابعة : لقد صار الصحابة (رضوان الله عليهم) على نهج النبي (صلى الله عليه وسلم) من بعده ، فهذا سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يبعث برسالته التاريخية في القضاء إلى سيدنا أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) ، وكان مما ورد فيها من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أبي موسى الأشعري : أما بعد فإنَّ القضاء فَريضةٌ محكمة وسُنّة متّبعة ، فافهَمْ إذا أُدْلِيَ إليك فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقّ لا نفاذَ له ، آسِ بين الناس في مجلسك ووَجهك حَتَّى لا يطمَعَ شريفٌ في حَيْفك ولا يَخافَ ضعيفٌ من جَورك.
الفَهمَ الفهمَ عندما يتلجلج في صدرك ممّا لم يبلغْك في كتاب اللَّه ولا في سنَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، اعرف الأمثالَ والأشباه وقِسِ الأمورَ عند ذلك ثم اعمِد إلى أحبِّها إلى اللَّه وأشبَهها بالحقّ فيما ترى .
ولم يطلب عمر (رضي الله عنه) من أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) التوقف حتى يرجع إليه ، كما أنه لم يطلب منه حتى جمع الناس على المسألة ، وإن كان ذلك مما هو مستحب ومندوب فيما يحتاج إلى ذلك ، غير أن ولي الأمر أو المجتهد إنما يفعل ذلك متى احتاج إليه ، مع تأكيدنا على أن رأي الحاكم يقطع الخلاف في المختلف فيه للمصلحة المعتبرة في ضوء المقاصد العامة للشرع الحنيف .