:أخبار وآراءأهم الأخبار

الديني والسياسي

أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

أكدنا في أكثر من موقف أن التوظيف والاستغلال السياسي والسلطوي للدين قد خرج بالأديان عن طريقها ومسارها وكونها سبل هداية ورشاد إلى طريق التنازع والشحناء والشقاق , وأن محاولة الجماعات المتطرفة ذات الأيدلوجيات السلطوية ركوب تيارات التدين ومحاولاتها ليّ أعناق النصوص الدينية وإسقاطها على أيدلوجياتها وفلسفاتها الرامية إلى مجرد الأخذ بزمام السلطة قد أساء كثيرًا إلى صورة الأديان , كما أن محاولات بعض رجال الدين اقتحام عالم السياسة من خلال تسويق أن علماء الدين يجب أن يكون لهم القول الفصل في كل مقولات الحياة حتى لو كانت من باب أنتم أعلم بشئون دنياكم , فقد أقحم بعضهم نفسه فيما ليسوا له بأهل مما أدخلهم في صراعات ما كان أغناهم وأغنانا عنها.

أخطر ما في الأمر هو محاولات التكسب بالدين على شاكلة ما تفعله تلك الجماعات المتاجرة بالدين , فما جعل الدين مجالا للتكسب به أبدًا , الدين لله , الدين علاقة صادقة بين العبد وربه , الدين عطاء , الدين ليس تجارة , إذا أردنا أن نؤثر في الناس بحق , وأن نكون مشاعل هداية بحق , فلابد من أن نحمل اللواء بإخلاص وتجرد لله (عز وجل) , متذكرين قول نبينا (صلى الله عليه وسلم): ” مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ”.

وإذا لم يكن عالم الدين على ثقة كبيرة في أن ما أصابه لم يكن ليخطأه , وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه , ولم يفقه حق الفقه قول نبينا (صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) : ”  يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ” (رواه أحمد ) فإن الأمر جد خطير ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، وقد قالوا : حال رجل في ألف رجل خير من كلام ألف رجل لرجل.

وهذا القاضي العظيم أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني ينشأ قصيدة رائعة حول عزة العلم وأهله , فيقول :

يقولـــون لي فيـــك انقبــاضٌ وإنمــــا

رأوا رجلاً عن موقفِ الذلِّ أحجمـــا

إذا قيلَ هذا مَنهـــــــلٌ قلتُ قد أرى

ولكنَّ نفسَ الحرِّ تَحتَملَ الظَّمَـــــــــــا

فمـــا كلُّ برقٍ لاحَ لي يستفــــــــــزُّني

ولا كلُّ من في الأرضِ أرضــاه مُنَعَّما

ولم أقضِ حَقَّ العلمِ إن كان كُلَّمَــــــا

بدا طَمَـــــــــعٌ صَيَّرتُه لي سُلَّمـــــــــــــا

ولم أبتذل في خدمة العلمِ مُهــجَتي

لأَخدمَ من لاقيتُ لــكن لأُخدمــــــــا

أأشقى به غَرســـــــاً وأجنيه ذِلــــــــــــةً

إذن فاتباعُ الجهلِ قد كان أَحزَمــــــا

ولو أن أهل العلمِ صانوه صانَهُـــــــــم

ولو عَظَّمُوه في النفوسِ لَعُظِّمــــــــــــا

كما أننا يجب أن نفرق بين تدين السياسي الذي يعني حرصه على الأخلاق والقيم النبيلة وحرصه على مرضاة ربه (عزّ وجلّ)  وبين محاولة البعض استغلال الدين لمكاسب سياسية ، فالأول محمود طالما أنه يدفع إلى العدل والرحمة , والسياسة النظيفة , والقيم النبيلة , أما الآخر وهو محاولة استغلال الدين والمتاجرة به على نحو ما تسوق الجماعات الإرهابية , فقد أضر بصورة الأديان ووسَّع دوائر الإلحاد والتمرد على الدين والقيم , مما يتطلب جهودًا مضنية لتصحيح الصورة والمسار ، مع تأكيدنا أن عالم اليوم ليس عالم الأمس ، وأن ذلكم الرجل الذي يمكن أن يحيط بكل شيء من علوم الكون والحياة لم يعد موجودًا ، ولم يخلق بعد ، لأن الله (عزّ وجلّ) قال : ” وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ” .

ولا سيما أننا في عالم يموج بالعلوم والمعارف والتخصصات العديدة المختلفة ، سواء في مجالات السياسة ، أم الاقتصاد ، أم العلوم والآداب ، مما يتطلب إعطاء كل ذي اختصاص حقه ومجاله ، مع التأكيد على ضرورة اتساع الأفق الثقافي العام السوي  للجميع ، بما يجعل الإنسان قادرًا على وزن الأمور وزنًا دقيقًا ، والتعامل معها تعاملاً عصريًّا ومنطقيًّا غير منعزل عن تطورات العصر ومستجداته ، مع التفرقة وبوضوح بين مجالات عمل علماء الدين ومجالات عمل رجال السياسة.

وعلينا أن نفرق وبوضوح شديد لا يقبل الالتباس بين التدين الحقيقي الخالص لله (عز وجل) ، وهو ما نسعى إليه ، ونسأل الله أن يهدينا إليه ، وبين التدين الشكلي المظهري الذي تحاول الجماعات المتطرفة من خلاله تسويق أنفسها على أنها حامية الدين .

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى