الأيام العشر وإضاءة لا بد منها
العشر الأول من ذي الحجة هي أيام مباركة ذكر في شأنها وبيان فضلها ما لم يذكر في غيرها ، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ) يَعْنِي أَيَّامَ الْ عَشْرِ ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ : “وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ” ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : ” مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلاَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ”،ويقول (صلى الله عليه وسلم) : ” أفضل أيام الدنيا أيام العشر يعني عشر ذي الحجة “. قيل : ولا مثلهن في سبيل الله ؟ . قال ” ولا مثلهن في سبيل الله إلا من عفّر وجهه في التُراب” .
وذكر بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى : (والفجر وليال عشر) أنها العشر الأول من ذي الحجة ، وإن كان بعضهم قد ذكر أنها العشر الأواخر من رمضان ، وحاول بعضهم أن يجمع بين الأمرين فقال : الشأن في الفضل في عشر ذي الحجة موجه إلى الأيام وفي رمضان موجه إلى الليالي ، لأن بها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، ولا حرج على فضل الله في هذه وتلك ، فمن فاته فضل في هذه فليستدركه في تلك ، أما من وفق لاغتنامهما معًا فهو السعيد الموفق .
غير أن الإضاءة التي لا بد منها ولا غنى عنها هي ما ورد في الحديث عندما سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) : وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يا رسول الله ؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : ” وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ” إذ لا ينبغي فهم هذا النص النبوي الشريف بمعزل عن النصوص والقواعد الأخرى التي تنظم قواعد السلم والحرب ، فلا يجوز أن يخرج أي شخص بنفسه وماله من تلقاء نفسه معلنًا الجهاد الذي يراه من منظوره هو ، كما أن ذلك غير موكول إلى أي جماعة ، أو حزب ، أو قبيلة ، وإلا لصارت فوضى ، يعلن هذا الجهاد في الشرق ، وذلك يعلنه في الغرب ، وآخر في الشمال ، ورابع في الجنوب ، دون أي حكمة ، أو دراسة لطبيعة الحروب ومقتضياتها ومتطلباتها ، ومدى الحاجة إليها ، والاستعداد لها ، وهل هي واجبة محتمة أم أنه يمكن تفاديها ، أو تأجيلها لظروف أكثر ملائمة ، وذلك مما لا يمكن أن يدركه آحاد الأفراد أو جماعة منهم ، إنما هو أمر موكول إلى رئيس الدولة أو من يخول له دستور الدولة اتخاذ قرار الحرب والسلم ، سواء أعطاه الدستور لرئيس الدولة ، أم لمجلس أمنها القومي ، أم للرئيس بعد أخذ رأي برلمانها ، المهم أن قضية إعلان حالة الحرب ليست ملكا للأفراد أو الجماعات ، وإلا لأصبح الأمـر فوضى لا دولة ، وعدنا إلى حياة الجاهلية ، حيث يقول الشاعر:
لا يَصلُــحُ النــاسُ فَـوضى لا سـَراةَ لَهُم
وَلا سَـــــراةَ إِذا جُهّــالُهُــــــم ســـــــادوا
مع تأكيدنا أن الحرب في الإسلام حرب دفاعية شرعت لرد الظلم والعدوان ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى : ” أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ” ، ويقول سبحانه: ” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ” .
ومما يؤكد أن الحرب في الإسلام إنما هي لرد الاعتداء ودفع العدوان دون أي تجاوز أو بغي أن الإسلام قد دعانا إلى الإقساط إلى جميع المسالمين وبرِّهم وإجارتهم إن استجاروا بنا ، فقال سبحانه : ” لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” ، وقال (عز وجل) : “ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ”.
كما نهى الإسلام نهيًا صريحًا عن تخريب العامر ، وهدم البنيان ، فكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين يجهزون جيوشهم يوصون قادتها ألا يقطعوا شجرًا ، وألا يحرقوا زرعًا، أو يخربوا عامرًا ، أو يهدموا بنيانًا ، إلا إذا تحصن العدو به واضطرهم إلى ذلك ولم يجدوا عنه بديلا ، وألا يتعرضوا للزراع في مزارعهم ، ولا الرهبان في صوامعهم ، وألا يقتلوا امرأة ، ولا طفلا ، ولا شيخًا فانيًا ما داموا لم يشتركوا في القتال ، فالقتال مقابل للقتال ، لا الاعتقاد ، لأن الإسلام كان ولا يزال حريصًا على حفظ الدماء كل الدماء ، والأعراض كل الأعراض ، والأموال كل الأموال ، فكل الدماء حرام ، وكل الأعراض مصانة ، وكل الأموال محفوظة.