الفتنة والخيانة
أشد الفتن هي تلك التي تجعل الحليم حيران , وصاحب اللب لا لب له ولا عقل , هي تلك الأمور الملتبسة المتداخلة التي لا يكاد يتبين فيها الصديق من العدو أو يستبين , فكم فيها من عدو في ثياب صديق , وقد قالوا :
احــــــذر عـــــدوّك مـــــــرة |
واحذر صديقـك ألف مرّة |
فلربمّا انقلــــب الصديـــق |
فكـــــان أعلــــم بالمضـــرّة |
غير أن الإسراف في هذا التوجس قد يفقدك كل الأصدقاء , حيث يتحول التوجس إلى مرض قاتل , وداء عضال لا فكاك منه , بحيث يشل تصرفات المرء , ويجعله شاكًّا فيمن حوله وكل من حوله , بل إنه ليكاد يشك حتى في الجمادات ، فالظن القائم على مجرد التخمين أو التوجس هو المنهي عنه في قوله تعالى : ” اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ “, أما الحذر أو الظن المبني على علاماته وأماراته وشواهده فهو الذي يمكن أن يقال في شأنه : سوء الظن عصمة.
وإذا كان رب العزة قد وصف الفتنة في كتابه العزيز بأنها أكبر من القتل وأشد , فقال سبحانه : “وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ” , وقال سبحانه : ” وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ”, فإن ما نعيشه واقعًا حيًّا يؤكد مدى أثر الفتن في تدمير المجتمعات وإصابتها بما هو أشد وأنكى من القتل.
الفتنة تعني الدسيسة والوقيعة وإفساد ما بين الناس , وحمل بعضهم على سفك دم بعض بأيدي بعضهم بعضا , وتعتمد الفتنة على إثارة الأحقاد والضغائن , وإثارة النعرات الطائفية والقبلية والعرقية والمذهبية , وإعلاء صوت المظلومية الكاذبة , وتتخذ من التشكيك في النوايا وقلب الحقائق وتشويهها مسلكًا خبيثًا للفرقة والهدم , وتتخذ من وسائل التواصل الحديثة والكتائب الإلكترونية للجماعات الإرهابية التي تدعمها منظمات وأنظمة راعية للإرهاب وممولة له ، وسيلة لإثارة الفوضى والفتن والقلاقل .
ويزداد أمر هذه الفتن خطورة إذا ارتبط بالخيانة ، وبخاصة خيانة الإنسان لوطنه , وقد تتجاوز الخيانة مستوى الأفراد إلى مستوى الجماعات أو التنظيمات , وقد تتجاوز ذلك إلى مستوى بعض الأنظمة التي تخون أمتها التي تنتمي إليها وأشقاءها الذين لا غنى لها عنهم , وتسلك مسلك العمالة المقيتة لأعداء أمتها الذين يعملون على تفكيكها وتفتيتها وإسقاطها , وتحويلها إلى دويلات أو كيانات صغيرة لا تسر صديقًا ولا تضر عدوًّا.
والخيانة مذمومة على كل حال , يقول الحق سبحانه : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ” (الأنفال : 27) , ويقول سبحانه : “وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ” (يوسف : 52) , ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ” (متفق عليه) , ويقول (صلى الله عليه وسلم) : ” أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا ، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ” (متفق عليه) .
وقد حثنا ديننا على توخي الحيطة والحذر , من أن نخدع أو نؤخذ على غرة , فقال سبحانه : “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا” (النساء : 71) , وقال سبحانه : ” وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً” (النساء : 102) , وكان سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول : ” لستُ بالخِبِّ، ولا الخِبُّ يَخدعُني” , وكان الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة يقول: “لولا الإسلام لمكرت مكرًا لا تطيقه جزيرة العرب” , فالمؤمن كيس فطن.
وللخروج من هذا الخطر علينا أن نتحلى بمنتهى الفطنة واليقظة ، وألا نمسك العصا من المنتصف ، وأن ننحاز وبقوة وحسم إلى جانب البناء والتعمير في مواجهة الهدم والتخريب , إلى صناعة الحياة وعمارة الكون في مواجهة صناعة الموت والدمار , إلى جانب بناء الأوطان لا هدمها ولا بيعها ولا خيانتها , بل علينا أن نقف وبحسم في وجه الخونة والعملاء , وأن نكون إيجابيين تجاه أوطاننا لا سلبيين ولا خائفين ولا مرتعشين ولا مترددين , وعلينا أن ننحاز إلى جانب إعلاء القيم الأخلاقية والإنسانية , وتعميق وترسيخ الانتماء الوطني في مواجهة دعاة الفوضى والفتنة والانحلال , حتى ننجو بأنفسنا وأوطاننا إلى بر الأمان , ونقضي على الإرهاب الأسود الغاشم وداعميه ومموليه , ونقتلعه من جذوره , ونخلص العالم والإنسانية جمعاء من شره قبل أن يحرق الأخضر واليابس , ” وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ”.