مصاصو الدماء الجدد
ارتبطت الصورة الذهنية عن مصاصي الدماء بتلك الكائنات الحقيقية أو الوهمية المتوحشة التي تتغذى على دماء البشر , وتجد في امتصاص هذه الدماء وتجرعها لذتها وشهوتها وبغيتها ونشوتها , بحيث لا تملك هذه الكائنات أي عقل ولا قلب ولا رحمة ولا إنسانية , ووفق برامج التطور العكسي الذي يسير في اتجاه أقصى درجات التخلف والخروج على عالم الإنسانية إلى عوالم هي في المفترض أقرب إلى دنيا الخيال منها إلى دنيا الحقيقة , وإلى عالم الحيوانات الشرسة المفترسة الشاذة منها إلى عالم البشر , ابتلينا بمسوخ تنتمي شكلا إلى عالم البشر حقيقة وواقعا إلى هذا العالم الغامض المشوه عالم مصاصي الدماء , حتى صار له عناصره , وجماعاته , بل حتى أنظمته الراعية له.
إن الأثر المترتب على عملية مص الدماء هو إزهاق أرواح بعض البشر والأثر المترتب على العمليات الإرهابية إنما هو أيضًا إزهاق أرواح بعض البشر , وإذا كان الأول يتلذذ بامتصاص الدم فإن الآخر يتلذذ بمجرد إراقة الدم , إسالة الدم , منظر الدم , تعذيب الفريسة , والفريسة هنا هي الأرواح البريئة الآمنة المسالمة , أو تلك التي لا ذنب لها ولا جريرة إلا أنها تدافع عن أرضها وعرضها وكرامتها وعن البشر الآخرين , لأنها إنما تؤمن بحق الحياة للجميع.
أما عناصر مصاصي الدماء فهي تلك العناصر التي تقوم بعمليات القتل والتفجير واستهداف الآمنين وكل من يقوم بمساعدتها بأي لون من ألوان المساعدة الميدانية أو اللوجستية أو يوفر لها غطاء ماديًّا أو معنويًّا أو فكريًّا أو يعمل على تبرير أعمالها أو يتبنى الدفاع عن هذه الأعمال.
أما جماعات مصاصي الدماء , فهي تلك الجماعات التي تقوم على أيدلوجيات تعتمد القتل والتفجير والتصفية البشرية واستباحة الدماء منهجًا ومسلكًا.
أما الأنظمة التي يمكن أن يطلق عليها أنظمة مصّ الدماء , فهي تلك الأنظمة التي ترعى تلك العناصر وتلك الجماعات التي تنتهج القتل والتصفية الجسدية وسفك دماء الآمنين وترويعهم وتوفر لها المال والعتاد والملاذ الآمن.
وربما يرى بعض النقاد أو المؤلفين أو القراء أن إطلاق لفظ مصاصي الدماء على كل هؤلاء إطلاقًا لفظيًّا قاسيًّا , ولهؤلاء وأولئك أقول : أولاً : أيهما أعنف وأقسى أهو مجرد اللفظ المتحفظ الذي يأتي مجرد تصوير أو رد فعل أم هذه الجرائم الشنعاء الشاذة في دنيا البشر التي تجعلنا وتجعل كل من يملك أدنى حس إنساني يتساءل : من هم هؤلاء المجرمون الذين يتجردون من كل حس إنساني أو حتى حيواني ويرتكبون هذه المجازر البشعة ذبحًا أو حرقًا أو تمثيلا وتنكيلا بالبشر , بحيث لا تستثنى من ذلك امرأة ولا طفلا ولا شيخًا فانيًّا ؟!
ثانيًّا : أنني لم أجد معادلاً لغويًّا ولا موضوعيًّا لتلك الجرائم الشنعاء يمكن أن يفي أو يكافئ أو يصور بعض معالمها أدق ولا أكثر تمثيلاً ولا تحفيزًا للشعور ولا مقابلة لبشاعة الجرم من مصطلح مصاصي الدماء.
وإذا كان رسولنا (صلى الله عليه وسلم) قد قال : ” عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ” , فقد دخلت هذه المرأة النار في هرة , لم تقتلها , ولم تذبحها , ولم تحرقها , ولم تمثل أو تنكل بها , إنما فقط حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من رزق الله , فما بالكم بمن يعذب الحيوان , بل من يقتله , بل من يمثل به ؟ ثم ما بالكم بمن يفعل ذلك بأخيه من بني الإنسان ؟ هذا إن كان هو إنسانًا أصلا أو كان يؤمن بالإنسانية.
إن الأمر يتطلب وبلا أي توان أو تريث أو تأخر العمل الجاد وقبل فوات الأوان على استعادة أو إعادة بناء منظومة القيم الإنسانية على مستوى إنساني وعالمي , والوقوف وبحسم في وجه مصاصي الدماء الجدد حتى لا تتسع الهوة أو تستشرى الظاهرة فتفقد الإنسانية أهم خصائصها ومقوماتها وتدخل في فوضى غير خلاقة لا تبقى ولا تذر , وقبل أن تحصد هذه الفوضى الأخضر واليابس في عالم لا يمكن لأحد فيه أن يكون بنجوة عن المخاطر والحرائق التي تشتعل في أي منطقة منه.