:أهم الأخبارمقالات

العالِمُ الحر والعالِم المُؤَدْلَج

لا شك أننا في عالم شديد التداخلات والتعقيدات , حتى صارت الفروق بين الأشياء شديدة الالتباس إلا لمن أنار الله طريقه بالعلم والوعي والفطنة والإخلاص .

ولا شك أن العالِم الحر الذي لا يقيده شيء سوى ما يمليه عليه دينه وضميره ووطنيته هو ذلك الأنموذج الذي نبحث عنه , وهو القادر على خدمة دينه ووطنه وقضايا أمته دون أي حسابات مربكة, أما العالِم المؤدلَج أو المقولب أو الموجه أو الموظف لخدمة جماعة ما لا يمكن أن يكون إلا عبدًا لهذه الجماعة , ذلك أن الجماعة تأخذ من العالِم أمر دينه لتقايضه بفتات زائل من دنيا الناس , ومهما عظم أمر هذا الفتات لا يعدو كونه عرضًا زائلاً وحطامًا فانيًّا.

إن أكثر العلماء الذين وظفوا أنفسهم لصالح جماعات أو أيدلوجيات جماعات وطوائف بعينها وانساقوا خلف توجهاتها خسروا حياديتهم ومصداقيتهم وأنفسهم وربما دينهم في آن واحد .

وإن أي عالِم أو مفكر أو مثقف يمكن أن تشتري ذمته على حساب قضايا دينه أو وطنه لخائن للدين والوطن , كما أن على الوطن أيضًا أن يحتضن علماءه , ويبصرهم بالتحديات التي تواجهه , وبما قد لا يقفون عليه من صعوبات وتحديات , ليدركوا ما يمكن أن يغيب عنهم من فقه الواقع وتحديات الظرف الراهن , لتنضبط رؤاهم وفتاواهم مع ما يتطلبه فقه هذا الواقع دون إفراط أو تفريط .

وأنا على يقين تام ومن خلال تجربة طويلة قاربت خمسة وثلاثين عامًا في مجال العمل الدعوي  أن العالِم أو الواعظ أو الإمام غير المؤدلج فكريًّا , وبعبارة أكثر وضوحًا ومباشرة : غير المنتمي فكريًّا أو تنظيميًّا لأي جماعة كانت , لهو سهل الرجوع إلى الحق والالتقاء معك في منطقة وسط , وقابل لأن يسمع الرأي الآخر , وألا يجادل إلا بالحق وبالتي هي أحسن , وألا يدعو إلا بالحكمة والموعظة الحسنة , ومتى تبين له وجه الحق عاد إليه , شاكرًا من رده إليه ردًا جميلاً.

أما العالِم أو الواعظ أو الإمام أو الخطيب أو المفكر أو المثقف المؤدلج المنتمي فكريًّا أو تنظيميًّا لأي جماعة أو تيار فهو إما غير قابل للحوار أصلا , أو غير قابل إلا للحوار الجدلي العقيم على طريقته هو التي لا يمكن أن تؤدي إلا طريق واحد هو ما يريد بك الوصول إليه وحملك عليه وإرغامك على فكرته ولو بالباطل ، وبكل ما يخالف العقل والمنطق .

وإذا كانت الانتماء لهذا الجماعات يُشكل خطرًا داهمًا على النسيج الوطني وفي كل مفاصل الحياة , فإن الأمر لهو أكثر خطرًا وأشد بلاء عندما يتعلق الأمر بالدين والفكر والتربية والهوية , ولذا فإني أؤكد وسأظل أؤكد على عدم تمكين أي من المنتمين للجماعات المتشددة والمتطرفة لا من صنع القرار الديني ولا الفكري ولا الثقافي ولا التعليمي ولا التربوي, ولا حتى مجرد التمكن من تشكيل العقول وبخاصة عقول النشء والشباب.

ولله در القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني , حيث يقول:

يَقُولُونَ لِي فِيـكَ انْقِبَـــــاضٌ وَإِنَّمَــــا

رَأَوْا رَجُلاً عَــنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا

أَرَى النَّاسَ مَن دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهمْ

وَمَـنْ أَكْرَمَتْـــهُ عِـــزَّةُ النَّفْــــسِ أُكْرِمَـــا

وَمَا كُلُّ  بَــــرْقٍ لاحَ لـــــي يَسْتَفِزُّنِــــي

ولا كُلُّ مَنْ لاقَيْــتُ  أَرْضَـــاهُ  مُنْعِمَـــا

وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْــمِ إِنْ كــانَ كُلَّمَــا

بَــدَا طَمَــــعٌ صَيَّرْتُـــهُ لِـــــــيَ سُلَّمَـــــــا

إذا قِيــلَ : هذا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَـــدْ أَرَى

وَلكِنَّ نَفْسَ الحُـــرِّ تَحْتَمِــــلُ الظَّمَــــا

ولم أَبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِـــي

لأَخْدِمَ مَن لاقَيْتُ لكــــــنْ لأُخْدَمَـــــا

أَأَشْقَــــى بِـــــهِ غَرْسًا وَأَجْنِـيـــــهِ ذِلَّــــةً

إِذِنْ فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كـــانَ أَحْزَمَـــا

ولو أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُــــوهُ صَانَهَــــمْ

ولو عَظَّمُوهُ  في النُّفُــــوسِ لَعُظِّمَـــــــا

 

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى