دموع العظماء
دموع العظماء عزيزة ، غالية ، نادرة ، وقد تكون الدمعة رحمة ، كما قال نبينا (صلى الله عليه وسلم ) عندما دمعت عيناه عند وفاة ابنه إبراهيم (عليه السلام) ، فسأله سيدنا عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) : وأنت يا رسول الله ؟ فقال (صلى الله عليه وسلم): “يا عبد الرحمن إنها رحمة” ، وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن , ولا نقول إلا ما يرضي ربنا , وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ” ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : “عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” )رواه الترمذي( ، ومن السبعة الذين يظلهم الله (عز وجل) في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله , رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه من الدمع ، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم ) : “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ” (رواه البخاري) .
فإذا تحدثنا عن دنيا الناس نجد دموع العظماء عزيزة أيضًا ، فهذا أبو الطيب المتنبي يعزي سيف الدولة الحمداني في وفاة أمه , فيقول :
وَمَن سَرّ أهْلَ الأرْضِ ثمّ بكَـى أسًـــى |
بكَــــى بعُيُـــــونٍ سَــرّهَـــــــا وَقُلُــــوبِ |
أما يوم وفاة سيف الدولة نفسه , فيقول أبو الطيب:
ما كنــتُ آمُـــلُ قَبـــلَ نَعشِــكَ أن أرَى |
رَضْوَى علـى أيــدي الرّجـــالِ تَسيــــرُ |
ما كنتُ أحسبُ قبل دفنكَ في الثّرَى |
أنّ الكَواكِـــبَ فـــي التّــــرابِ تَغُــــورُ |
وهذا متمم بن نويره يبكي أخاه مالكا , فيقول :
يقولـــــون تبكي كــــــل قبـــــر رأيتــــــه |
لقبــر ثوى بيـــن اللـــــوى فالدكــــادك |
فقلــت له إن الأســى يبعـــــث الأســـى |
فدعنــــــي فهـــذا كلـــــه قبـــــر مالــــــك |
وهذا حافظ إبراهيم يقول في رثاء مصطفى كامل :
أَيــــــا قَبــرُ هَـذا الضَيــــفُ آمــــالُ أُمَّـــةٍ |
فَكَبِّـــر وَهَلِّل وَاِلقَ ضَيفَــــــكَ جاثِيــــــــــا |
ويقول في رثاء الإمام محمد عبده :
سَــلامٌ عَلــــى الإِســـلامِ بَعـــدَ مُحَمَّــــــــدٍ |
سَــلامٌ عَلـــــــــى أَيّامِــــــهِ النَضِـــــــــــراتِ |
عَلــى الدينِ وَالدُنيا عَلى العِلمِ وَالحِجــا |
عَلى البِرِّ وَالتَقـــوى عَلــــــى الحَسَنـــــاتِ |
لَقَد كُنـــتُ أَخشى عـــادِيَ المَــوتِ قَبلَهُ |
فَأَصبَحـتُ أَخشـــى أَن تَطـــولَ حَياتـــي |
ويقول عَبْدَة بن الطّبيب في رثاء قيس بن عاصمٍ:
عَلَيَـــكَ سَلامُ اللَّهِ قَيْسَ بْــــنَ عَاصِـــــــم |
وَرَحْــــــــمَتُـــــهَ مَا شَـاءَ أَنْ يـَتَرَحَّمَـــــــا |
تَحِــــــــيَّــــــةَ مَنْ أَوْلَيْتَهُ مِنْــكَ نِعْمَــــــــةً |
إِذَا زَارَ عَنْ شَــحْـــــــطٍ بِلَادَكَ سَلمَّــــــــا |
فَمَـــا كَـــانَ قَيْـــسٌ هُلْكه هُلْـــكَ وَاحِدٍ |
وَلَكِــــــنَّهُ بُنْيَـــــــانُ قَـــــوْمٍ تَهَــــدَّمَـــــــا |
وهذا سيدنا حسان بن ثابت يقول في رثاء سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :
كنـــــــــتَ الســـــــوادَ لناظـــــــــري |
فَعَمِـــــــي عَلَيْــــــــــكَ النّاظِــــــــــرُ |
مـــنْ شـــــــاء بعـــــــدكَ فليمـــــــتْ |
فعليــــــــكَ كنـــــــــتُ أحـــــــــــاذرُ |
ويقول:
مــــا بَـــالُ عَينِـــكَ لا تَنَــــامُ كأنّمَـــا |
كُحِلَــــتْ مآقِيهــــا بكُحْـــلِ الأرْمَــدِ |
جزعاً على المهـديّ، أصبــحَ ثاويـــاً |
يا خيرَ من وطىء َ الحصى لا تبعــدِ |
جنبي يقيكَ التربَ لهفـــي ليتنـــــي |
غُيّبْـــتُ قَبْلَـــكَ فـــي بَقِيــعِ الغَرْقَــدِ |
بأبي وأمــــي مـــنْ شهـــدتُ وفاتـــهُ |
في يومِ الاثنينِ النبـــيُّ المهتـــدي |
فَظَلِلْـــتُ بَعْــــدَ وَفَاتِــــــهِ مُتَبَلِّـــــداً، |
يالهْفَ نفســـي لَيْتَنــــي لــــم أُولَــــدِ |
أأُقِيــــمُ بَعْـــــدَكَ بالمَدينَــــة ِ بَيْنَهُـمْ؟ |
يا لَيْتَنــي صُبّحْـــــتُ سَــــمَّ الأسْـــوَدِ |
والوقفة التي أقفها هنا والتي يجب أن يقف عندها كل متأمل , هي ماذا فعل الإنسان للناس ؟ وماذا قدم لهم ولنفسه من الخير ؟ وما أثره ودوره في أمر دينهم ودنياهم؟ فما يقدم الإنسان من الخير وصالح العمل يجده في الدنيا رحمة وتعاطفًا ومشاركة وجدانية , وهذا معنى قول المتنبي :
وَمَـن سَرّ أهْلَ الأرْضِ ثمّ بكَى أسًـى |
بكَــــــى بعُيُــــــونٍ سَرّهَـــــا وَقُلُــــوبِ |
بما يوفاه عند ربه الجزاء الأوفى.