:أهم الأخبارمقالات

الدولة الوطنية والهوية العربية

أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

قضية الهوية والانتماء من أهم القضايا التي إما أن تؤدي إلى الأمن والاستقرار , والازدهار والنماء , وإما أن تؤدي إلى التشرذم والتفكيك , وإثارة الاضطرابات والقلاقل والفتن , وربما العمالة أو الخيانة .

وللهوية أركانها ومعالمها التي يقاس من خلالهما مدى انتماء المرء لوطنه وهويته , ولا شك أن جميع الدول والقوميات والأعراق والمذهبيات سواء تلاقت أم تداخلت أم توازت أم تناقضت , فإن كلا منها يسعى ويعمل على تعميق الولاء والانتماء له لدى منتسبيه أو مستهدفيه , غير أن هناك صراعًا تاريخيًّا أو شبه تاريخي يقوى ويطفو على السطح حينًا , ويخفت ويستتر حينا آخر , لكنه موجود بصورة أو بأخرى على أية حال , وهو ذلك الصراع بين الحريصين على هوية الدولة الوطنية ومن يعملون أو يدينون بولاءات أخرى .

والفهم الخاطئ الذي أصلته ورسخته كثير من الجماعات المتطرفة لدى عناصرها هو أن الولاء للجماعة والتنظيم فوق الولاء للوطن , وهذا الفهم تتبناه جميع الجماعات الإرهابية والمتطرفة التي ترى أن الدولة الوطنية بحدودها الراسخة المستقرة تقف صخرة وعقبة كئود في وجه مشروعاتهم السلطوية للقفز على الدولة الوطنية .

ونؤكد على الآتي :

  • أهمية تعميق وترسيخ الولاء والانتماء الوطني , والاعتزاز بالوطن والاستعداد لفدائه بالنفس والنفيس مع الشعور بفضله , والحفاظ على ترابه وثراه , والتأكيد على أن الوطنية ليست نقيضًا للدين أو مقابلا له , بل هي من صلب الدين , وهذا نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول مخاطبًا مكة المكرمة : والله يا مكة إنك لأحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إليّ , ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت , وظل (صلى الله عليه وسلم) يصوب نظره إلى السماء آملا أن يرده الله (عز وجل) إليها ردًا جميلا , ولو بالتحول تجاهها في صلاته , حتى نزل قول الله تعالى : “قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ” .
  • أن ترسيخ الهوية الوطنية له معالمه الظاهرة من احترام علم الدولة والعمل على رفعه عاليًّا , وترسيخ نشيدها الوطني وكل ما يحفر اسمها في النفوس والقلوب , وله ما يدعمه مضمونًا وجوهرًا من العمل والإنتاج , وإيثار المصلحة العامة للوطن على أي مصالح أخرى , وإدراك أن مصلحة الوطن هي مصلحة لجميع أفراده وأبنائه , وأن رجلا فقيرًا في دولة غنية قوية خير مائة مرة ومرة من رجل غني قوي في دولة فقيرة ضعيفة مهددة في كيانها وأصل وجودها .
  • أن الهوية الوطنية قد تتلاقى مع هويات أخرى عربية , أو إسلامية , أو أفريقية , أو أسيوية , حسب ظروف وموقع كل دولة , على أن ألا يكون ذلك توجه أفراد أو جماعات أو أحزاب أو قبائل بمعزل عن التوجه الوطني , فيذهب هذا إلى الشرق وذاك إلى الغرب وآخر إلى الشمال ورابع إلى الجنوب , مما يؤدي إلى تمزق الدول وتفككها وتشتيت كيانها بل ربما تشرذمها , بل أن تكون الدولة الوطنية على قلب رجل واحد في توجهاتها بما يعطيها القوة في محيطها الإقليمي وفي علاقاتها الدولية.
  • أننا مع اعتزازنا بهويتنا وحضارتنا وثقافتنا الإسلامية وإدراكنا لأهمية العمق الاستراتيجي الأفريقي , فإننا نرى في بعدنا العربي بعدًا هامًا يتطلب مزيدًا من العمل المشترك في ظل التحديات التي تواجه عالمنا العربي في وجوده وكيانه وتماسكه , متطلعين إلى دور أكبر وحركة دءوب لجامعة الدول العربية بما يحقق جمع الشمل العربي , إذ نرى أن هذا الأمر صار ملحًا , وأن المصلحة العربية المشتركة تقتضي أقصى درجات التنسيق والمشاركة في كل المجالات بما يحفظ للأمة العربية هويتها , ويحقق لها مجتمعة أمنها واستقرارها , ويسهم في القضاء على الإرهاب في المنطقة , ويخلصها ويسهم في تخليص العالم كله من شر التطرف والإرهاب , آملين أن يُشكل عملنا المشترك قوة ضاغطة في جميع المحافل الدولية بما يسمع صوتنا للعالم , ويبرز أننا ضحايا ولسنا جلادين , وأننا في مقدمة المواجهين للإرهاب لأننا أكثر من يكتوي بناره , وأننا دعاة سلام لا دعاة حرب , غير أنه سلام لا يمكن أن يكون ولن يكون أبدًا استسلامًا , وأن هذه الأمة لن تستسلم ولن تموت , وأن روح المقاومة فيها لا تزال وستظل حية قوية , وأنها لا يمكن أن تكون صيدًا سهلاً لأعدائها , وأنها على قدر المسئولية والتحديات , غير أن الأمر يتطلب تحركًا سريعًا على كل المستويات قبل فوات الأوان , لأن الخطر داهم , والخطب شديد , والعدو شرس لا يهدأ ولا ينام , ويجب أن تكون يقظتنا أشد وهمتنا أعلى , لأن الأمر يتعلق بأصل وجودنا , فإما أن نكون أو ألا نكون , مع التأكيد على أننا معًا سنكون قادرين على تجاوز التحديات , معًا على المستوى الوطني , والمستوى العربي , والمستوى الإسلامي , والمستوى الأفريقي , والمستوى الدولي , معًا مع الدول الصديقة والمحبة للسلام , معًا وفي كل ميدان بحسبه وما يناسبه , وليس أي من هذه العلاقات على حساب علاقة أخرى تتساوق معها أو تتوازى , على أننا إن أحسنا إدارة الأمر فستكون كل علاقة منها دعمًا للعلاقات الأخرى , وبما يحقق مصالح الجميع , إذن ينبغي على كل طرف أن يحمل الخير لنفسه ولغيره وللإنسانية لنحيا معًا حياة هادئة هانئة , لا أن تتحول الساحة الدولية إلى صراعات مختلفة لا تبقى ولا تذر , ولا تعود بالخير على أحد , فالعاقل من يعمل للسلام له ولغيره , والأحمق من يسعى للهلاك والدمار والقلاقل والفتن , فإن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر , وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير , فطوبى لمن جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر , وإنا لنرجو أن نكون منهم إن شاء الله تعالى.
المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى