مفتـــاح السعـــادة
لا شك أن السعادة قد يكون لها مفاتيح كثيرة ، حيث يراها بعض الناس متجسدة في نعمة الصحة ، وآخر في المال ، وثالث في الولد ، ورابع في الجاه والسلطان .
ومعروف أن الممنوع مرغوب ، فمن رزقه الله المال والولد وحتى الجاه والسلطان وابتلي في شيء من صحته لا يكاد يرى السعادة إلا في استعاضة ما أصيب به أو ابتلي فيه ، ومن رزقه الله الصحة والمال والجاه ولم يمن عليه بنعمة الولد لا يكاد يرى السعادة إلا في ولد يحمل اسمه ويحي ذكره ، ومن رزقه الله الصحة والولد ولم يبسط له الرزق لا يكاد يرى السعادة إلا في سعة العيش ورغد الحياة والتمتع بملذاتها أو حتى في مجرد جمع المال وكنزه ، وقد صور أحدهم حال بعض الناس فقال .
صغير يطلب الكبرا
وشيخ ودّ لو صغرا
وخالٍ يشتهي عملا
وذو عمل به ضجرا
ورب المال في تعب
وفي تعب من افتقرا
وكأن هؤلاء وأولئك لم يدركوا أن الدنيا دار كد وشقاء وتعب ونصب ، وقد قال أحد العارفين : من طلب الراحة في الدنيا طلب مالم يخلق ، ومات ولم يرزق ، لأن الله عز وجل يقول : ” لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ” (البلد :4) .
وقد طلب قديمًا إلى مجموعة من الأدباء والكتاب والمفكرين أن يصفوا السعادة كل في مجاله وميدانه شعرًا أو نثرًا ، قصيدة أو رواية ، خطبة أو مقالة ، فذهب كل منهم في ذلك أي مذهب ، غير أن أحدهم اختصر الأمر في جملة واحدةٍ، هي مفتاح السعادة الحقيقية عندما قال :” السعادة هي الرضا بما قسم الله” وهو ما يؤكده حديث نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “ اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ ” (سنن الترمذي) ، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : ” قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ ، وَرُزِقَ كَفَافاً ، وقَنَّعَهُ الله بِمَا آتَاهُ” (رواه مسلم) .
ومن نماذج الرضا ما كان من سيدنا عروة بن الزبير (رضي الله عنهما) عندما خرج في سفر ، ففقد واحدًا من أعز أبنائه إليه وأصيب في هذه السفرة بداء في قدمه انتهى بقطع ساقها من منتصفها ، فماذا كان منه ، ما كان منه إلا ما وصفه القرآن الكريم بالصبر الجميل الذي لا جزع ولا سخط فيه ولا معه ، ما كان منه إلا أن قال : “اللهم إنك قد أعطيتني سبعة من الولد فأخذت واحدًا وأبقيت لي ستة ، ومنحتني أربعة أطراف فأخذت واحدًا وأبقيت لي ثلاثة ، فلئن أخذت لقد أبقيت ، ولأن ابتليت لقد عافيت ، فلك الحمد على ما أخذت وابتليت ولك الحمد على ما عافيت وأبقيت ، ومرَّ أحدهم على رجل مقطوع اليدين مقطوع الرجلين ، وهو يقول حامدًا شاكرًا : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرًا من الخلق ، فقال له أحد الناس : من تراجع ومم عافاك الله ، فقال : يا هذا لقد عافاني من كثير وأعطاني أكثر ، الحمد لله الذي جعل لي لسانًا ذاكرًا وقلبًا خاشعًا وجسدًا على البلاء صابرًا ” وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ” (إبراهيم : 34) ، ويكفي هنا أن أشير إلى نوعين من الرضا : الأول هو الرضا بقضاء الله وقدره في المصاب في النفس أو المال أو الولد أو الأهل ، وهو يشير إلى عاقبة الصبر عليه في قول الله تعالى : ” وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ” (البقرة : 154-156) ، وقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِمَلائِكَتِهِ : قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي ؟ فيقولونَ : نَعَمْ . فيقولُ : قَبَضْتُمْ ثَمَرَة فُؤَادِهِ ؟ فيقولونَ : نَعَمْ . فيقولُ : مَاذَا قَالَ عَبْدِي ؟ فيقولونَ : حَمدَكَ وَاسْتَرْجَعَ . فيقول اللهُ تَعَالَى : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتاً في الجَنَّةِ ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ ” (رواه الترمذي) .
أما النوع الثاني من الرضا فهو الرضا بما قسمه الله (عز وجل) من الرزق ، فإذا آمن الإنسان حق الإيمان بأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها لاطمأنت نفسه ورضيت ، وفي هذا يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سربِهِ ، مُعَافَىً في جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا” (رواه الترمذي) ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : ” مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ” (سنن ابن ماجه ) فما أجمل الرضا بما قسم الله وما أعظمه راحة الله ، وما أوسعه بابا للسعادة وما أرقاه من مفتاح عظيم لها ، مع تأكيدنا كل التأكيد أن الرضا بما قسم الله لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب والسعي في عمارة الكون ، وتحصيل أسباب الرزق ، فشتان بين التوكل والتواكل ، وبين الفهم الصحيح والفهم السقيم ، وبين من يأخذ بالأسباب ويسلم بأمر النتائج ويعلم أن اختيار الله له خير من اختياره لنفسه ، ومن يتقاعس عن ذلك فالأول مطلوب ومحمود والآخر مرفوض ومذموم ، على أن السعادة العظمى التي لا مزيد عليها هي أن تنام وأنت هادئ النفس والبال ، وأن تلقى الله (عز وجل) وهو عنك راضٍ .