:أهم الأخبارمقالات

طابا ورمزية العلم

أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

من هناك ، من طابا ، من هذه البقعة ذات الدلالات المتعددة ، دلالة السيادة ، دلالة الدولة ، دولة الوطنية ، دلالة الحنكة السياسية ، دلالة العزيمة والقوة والشجاعة والبسالة ، كان لقاؤنا في أول خطبة جمعة ينقلها تليفزيون جمهورية مصر العربية من هذه المنطقة المفعمة بمعان خاصة في نفوس المصريين جميعًا ، بداية بما ارتبطت به من عبور سيناء ذلك العبور العظيم الذي حدث في العاشر من رمضان السادس من أكتوبر 1973م ، ومرورًا بحنكة وصبر وجلد المفاوض المصري في معركة لا تقل عن معركة النصر العسكري ، حتى عادت طابا إلى أرض الوطن ، وصار رفع العلم المصري خفاقًا فوق ثراها العطر أحد أهم المعالم والمناسبات الوطنية .

غير أن احتفالات هذا العام بما صاحبها من نقل شعائر صلاة الجمعة لأول مرة من هذه المنطقة ، تعكس مدى اهتمام الدولة بكل كياناتها بسيناء من جهة ، ومدى الأمن الذي صارت تنعم به سيناء من جهة أخرى ، حيث تحركت الوفود مابين شرم الشيخ ودهب ونويبع وطابا ، بين السلاسل الجبلية والهضاب والوديان دون خوف أو قلق أو تردد أو وجل ، وهو ما يستوجب التحية والتقدير لقواتنا المسلحة الباسلة ، ورجال الشرطة البواسل ، هؤلاء وأولئك هم من فرضوا كلمتهم على المنطقة ، واستطاعوا قهر الإرهابيين واضطرارهم إلى التقهقر والتراجع ، وألا يخترقوا سياج الأمن الحصين وبخاصة في جنوب سيناء بسائر مدنها الآمنة المستقرة .

والذي لا شك فيه أيضا أن أهل سيناء أنفسهم من حضر وبدو هم أهم صمام أمان لهذه المناطق ، بما يتمتعون به من حس وطني ، يدفعهم إلى المساعدة في الجهود الوطنية التي تعمل على حماية كل ذرة رمل أو نقطة ماء في أرض سيناء المباركة .

أهل سيناء متجذرون فيها تجذر جبالها ، عريقون عراقة هذه الأرض ، أهالينا في سيناء وطنيون حتى النخاع ، لا تزحزحهم لا أمواج البحر ولا عواصف الصحراء ، فهم شامخون شموخ قلعة (صلاح الدين) في أحضان البحر هناك ، يزرعون الوطنية في قلوب أبنائهم زراعتهم للنخيل أولأشجار الدوم المعمرة ، حب مصر يعشش في وجدانهم وأفئدتهم ، أهل كرم ولو أصابهم شظف العيش ، أهل مروءة ، أمن ضيفهم من أمنهم ، وكرامته من كرامتهم ، لا يسلمونه لعدو أو معتد ولو كان دون ذلك حياتهم ، وهذه صفات جديرة بأن تُرْعى وأن تُنَّمى .

وقد أسعدني عناية شبابهم بالشعر ، وبالفكر ، وبالثقافة ، وبالتطلع نحو العلم ، ليكون وسيلة للبناء ، فأخذ بعض أبنائهم يشق طريقه نحو الطب ، ونحو الهندسة ، ونحو القانون ، ونحو الفكر الإسلامي الصحيح ، ليقاوموا الإرهاب والظلام بالعلم والثقافة والفكر الإسلامي الوسطي الرشيد ، لذا فإنهم يحتضنون علماء الأزهر ، وبخاصة أئمة الأوقاف احتضان أبنائهم ، وقد لمست في أهالي وشيوخ سيناء بصفة عامة ، ومن سعدت بلقائهم من أبنائها في زياراتي المتعددة للطور ، وأبي رديس ، وشرم الشيخ ، ونويبع ، وطابا ، وبخاصة في زيارتي الأخيرة لطابا وفاء بلا حدود للوطن ، حيث جمعني بأهلها وبدوها مع محافظها العظيم النشط اللواء / خالد فودة وأربعة من زملائي الوزراء لقاء امتد لأكثر من ثلاث ساعات في خيمة بدوية مفتوحة ، أكلنا من طعامهم وتجاذبنا أطراف الحديث واستمعنا إلى شعرائهم ومثقفيهم في ملحمة وطنية تدرك ولا توصف .

ثم جاءت تلك اللحظة الفارقة لحظة رفع العلم على أرض طابا الطاهرة في ذكرى استردادها السابعة والعشرين ، ذلك العلم الخفاق الذي يعبر عن سيادة الدولة وعلوها ورفعتها ، وبقدر وطنية الإنسان وحبه لبلده وانتمائه إليه يكون تقديره لهذا الرمز .

إن مصر لم تفرط في الماضي في ذرة رمل واحدة رغم كل الإغراءات والمغريات آنذاك، ولم تفرط في الحاضر ، ولن تفرط في المستقبل ، بفضل الله (عز وجل) ، ثم بفضل رجال يؤمنون بهذا الوطن وتمتلىء قلوبهم بحبه وعشق ثراه ، رجال ضحوا ويضحون في سبيله .

بلاد مات فتيتها لتحيا

وزالوا دون قومهم ليبقوا

فتحية عطرة لكل بطل وكل شهيد ضحى في سبيلها ، وتحية لكل قطرة دم سالت على ثراها العطر ، وتحية لأم كل بطل ربت ابنها على البطولة والفداء ، وتحية لهذا النشء السيناوي المفعم بالوطنية ، تحية لمربيه ومعلميه وكل من أسهم في بنائه هذا البناء الوطني وتكوينه هذا التكوين الفكري المستنير ، وتحيا مصر ولادة معطاءة درعًا واقيًا لأمتها العربية وسندًا وذخرًا لها ، مدافعًا قويًّا عن حرية الإنسان وأمن وسلام العالم كله بما تبذله من جهود جبارة في مواجهة الإرهاب عسكريًا على أيدي قواتنا المسلحة الباسلة وفكريًّا على أيدي علمائها المخلصين الذين يواصلون الليل بالنهار لنشر الفكر الإسلامي الوسطي من شباب أئمة الأوقاف ، ليس في ربوع سيناء فحسب بمدنها وقراها ووديانها ، إنما يعملون على نشره في جميع ربوع مصر الغالية ، وفي مختلف دول العالم من خلال بعثاتنا للعالم كله ، ومن خلال كتبنا المترجمة التي أخذت تغزو معظم المراكز الإسلامية بالعالم ، بل ومكتبات كثير من الجامعات العالمية ، ومن خلال صفحاتنا باللغات الأجنبية التي بلغت خمس عشرة صفحة رسمية للوزارة ، ومن خلال أكاديمية الأوقاف لتدريب الأئمة باللغات الأجنبية والتي ستخرج خلال أسابيع الدفعة الأولى من دارسي العلوم الشرعية باللغة الإنجليزية ، أو اللغة الفرنسية ، أو اللغة الألمانية ، آملين أن تسترد مصر ريادتها الدينية والثقافية في العالم كله بفضل الله (عز وجل) ثم بفضل قيادتها الرشيدة وأزهرها الشريف ، ودبلوماسيتها الواعية ، وجهود جميع أبنائها المخلصين حتى ترقى إلى المكانة التي تستحقها بين الأمم والشعوب ، على أن ذلك يحتاج إلى أمور من أهمها : الجهد والتعب والعمل والإنتاج ، وأن نكون صفًّا واحدًا في مواجهة التطرف والإرهاب ، وقبل كل هذا وبعده تعميق الانتماء الوطني الذي يعد علم مصر الخفاق رمزيته وشعاره

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى