:أهم الأخبارمقالات

النص المقدس والفكر البشري

أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

    لا شك أن هناك اشتباكًا يجب أن يُفك ، والتباسًا ينبغي أن يُزال ، في حالتي التجاذب والتنافر أو المد والجزر الماثلتين بين بعض علماء الدين وبعض المثقفين ، وإن كنت لا أرى لهذا التقابل وجهاً ، إذ ينبغي أن يكون العالم مثقفاً ، وأن يكون المثقف على قدر من الاتصال ومن الإلمام بالثقافة الدينية ولو في أساسياتها وقضاياها الكبرى ، ويمكن إزالة كثير من وجوه الالتباس إذا فرَّقنا جميعًا وبوضوح بين النص المقدس الثابت غير القابل للمساس به أو الافتراء عليه أو النيل منه ، وهو النص القرآني ، والنص النبوي الثابت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وبين التراث الفكري البشري الناشئ حول هذين النصين القرآني والنبوي، المبني عليهما فهمًا أو تفسيرًا أو استنتاجًا أو تأويلًا ، مما يقبل الاجتهاد بضوابطه نظرًا لتغيُر الزمان والمكان والحال ، فما أفتى به بعض العلماء في عصر ما وكان مناسباً لزمانه ومكانه وبيئته قد لا يكون مناسباً لزماننا وواقعنا ، فإن الأمر قد يتغير بتغير الزمان أو المكان أو الحال أو حتى حال المستفتي ،  وقد ذكر الأصوليون أن الفتوى تتوارد عليها الجهات الأربع : الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص.

    على أن هذا التراث الفكري الإنساني لا يمكن طرحه جملة ولا تطبيقه على واقعنا جملة ، إذ لا يمكن أن نطرح نتاج ما يزيد على أربعة عشر قرنًا من الزمان ، وننشئ حياة فكرية في الهواء الطلق ، بل إن واقع وإشكالية كثير من الجماعات المتطرفة أنها تسعى إلى طرح هذا التراث جملًة وإنشاء واقع فكرى جديد يتسق مع مغامراتهم الإرهابية وأفكارهم المتطرفة ، بدعوى أنهم رجال كما كان الآخرون رجالًا ، متناسين أو متجاهلين كل ما أصّلَه  أهل العلم المعتبرون المتخصصون من ضوابط الاجتهاد والفتوى وأصول العلم الشرعي .

     على أن العلماء المستنيرين يؤكدون على ضرورة توفر ثلاثة ضوابط رئيسة لمن يتصدى للإفتاء.

 أولها :- معرفة الحكم الشرعي من مصادره المعتبرة معرفة العالم المتقن المتخصص المجتهد.

ثانيها : – معرفة الواقع ، بحيث لا يكون العالم  أو المفتي  بمعزل عن معطيات عصره وضروراته وحاجاته مما لا غنى عنه  لا للمفتي ولا للمستفتي .

ثالثها :- وهو الأهم أن يكون لديه رؤية وبصر ونظر بحيث يُنْزِل الحكم الشرعي المناسب على ما يناسبه من الواقع الذي يكون قد ألَّم بجميع أطرافه ، فلا يُسْقِط الحكم على غير واقعه ، ولا يحكم على واقع لا يُلمُّ به ولا بملابساته العصرية .

     فمثلاً أهل العلم جميعًا وبلا استثناء يُجمعون على حرمة الربا ؛ لقوله تعالى : ”  وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ” (البقرة: 275) ، لكن الأحكام التفصيلية المتعلقة بالربا، وإنزاله على أي لون من ألوان المعاملات العصرية تقتضى من المفتي أن يكون ملمًّا بأحكام جميع المعاملات في الفقه الإسلامي من مصادرها الشرعية الأصيلة، ما يدخل منها في باب الربا وما لا يدخل ، مُدركاً كل الإدراك للفروق الدقيقة بينها ، من بيع ، أو ربا ، أو قرض ، أو سلم ، أو مخابرة ، أو مزارعة ، أو مساقاة ، أو مرابحة ، ملمًّا في الوقت ذاته بأنواع المعاملات العصرية وتفريعاتها وآليات عملها وضرورات العصر ، وما لا يستغنى عنه في حياة الناس ومعاملاتهم منها ، مفرقًا  بين ما هو عام يعود بالنفع العام على جميع أفراد المجتمع ، وبين ما هو خاص مما يُسهم في صنع الطبقية ويزيد الغني غنى والفقير فقرًا ، ثم بعد ذلك كله يكون لديه من العلم والخبرة ، والبصر والبصيرة ، والدربة والتمرس ، ما يسقط به الحكم الشرعي على ما يناسبه من الواقع، أو يكيف الواقع في ضوء ما يقابله وينطبق عليه من الأحكام الشرعية لا ما ينطبق على غيره أو سواه ، ومن هنا كان عمل الأصوليين والفقهاء الدقيق غاية  الدقة  في تحديد  شروط المجتهد وأحكام القياس والاستنباط وسائر الأدلة والقواعد الكلية سواء المتفق عليها أم المختلف فيها ، والتي يبنى عليها المجتهد اجتهاده ، مما يؤكد أن الأمر في حاجة إلى  التخصص الدقيق ،  وأن الفتوى لا يمكن أن تكون كلأً مباحًا للهواة من يعلم ومن لا يعلم.

     ولو أن كل إنسان تفرغ لما يتقنه وما يحسنه لكان التفاهم بيننا أشد ، ومساحات التلاقي بيننا أوسع، وقد قالوا: من انشغل بما لا يعنيه ضيع ما يجب أن يشغله ويعنيه.

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى