:أخبار وآراءأهم الأخبارمقالات

قصة التماثيل وهدم الحضارات

أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

     بداية لا يوجد مسلم واحد على ظهر البسيطة يعبد تمثالاً , أو يؤمن بذلك , أو يدعو إليه , أو يفكر فيه , بل ولا أحد من أصحاب الديانات السماوية على الإطلاق .

     وإذا كان الإسلام قد نهى عن صناعة التماثيل في عصر صدر الإسلام فإن العلة في ذلك كانت تدور حول أمرين , أولهما أن الناس كانوا لا يزالون حديثي عهد بالإسلام ، قريبي عهد بعبادة الأصنام والأوثان ، ظنًا منهم أنها تقربهم إلى الله (عز وجل) كما حكى القرآن الكريم على لسانهم ، حيث يقول سبحانه وتعالى : ” مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ” .

     الأمر الآخر : إذا كانت هذه التماثيل تصنع لتعبد , أو كانت صناعتها مضاهاة لخلق الله (عز وجل) , ومما يؤكد ذلك أنه باستثناء تطهير الكعبة من الأصنام والأوثان التي كانت تعبد لم يثبت أن الصحابة رضي الله عنهم حطموا معبدًا أو تمثالاً أو أثرًا من الآثار في أي بلد من البلاد التي فتحوها , ذلك أن فهمهم للإسلام كان فهمًا صحيحًا للمقاصد والغايات , فلم يجمدوا عند ظواهر النصوص , وإنما تأملوا بعمق وفهم ووعي في غاياتها ومقاصدها , ومما يؤكد حسن استيعابهم وفهمهم للنصوص ما كان من سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين منع سهم المؤلفة قلوبهم مع أنه ثابت بنص قرآني صريح , حيث يقول سبحانه وتعالى : ”  إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ ” , فلما سئل (رضي الله عنه) : كيف توقف سهما كان يصرفه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  ؟ فقال (رضي الله عنه) : كنا نعطيهم والإسلام ذليل ضعيف تألفًا لقلوبهم , أما وقد أعز الله (عز وجل) الإسلام بفضله فلم يعد لصرف هذا السهم وجه .

      وأبعد من هذا أيضًا أنه جمد أو عطل حد السرقة عام المجاعة ، وحين كتب إلى أحد عماله ماذا تصنع إذا جاءك سارق ؟ قال : أقطع يده , قال :  فإن جائني جائع قطعت يدك.

     غير أن أمتنا الإسلامية قد ابتليت بأناس عقمت أفهامهم ، وجمدت عقولهم ، فأخذوا يحلون ويحرمون بدون علم ولا فهم ولا دراسة ، وأقحموا أنفسهم وتلاميذهم وأتباعهم وعناصرهم فيما ليسوا له بأهل من شئون الفتوى ، فضلوا وأضلوا ، وفتحوا الباب واسعا أمام قوى عالمية استعمارية وامبريالية تعمل على طمس معالمنا الحضارية ، سواء أكانت عربية ، أم إسلامية ، أم مسيحية ، أم فرعونية ، أم آشورية ، أم بابلية ، أم إغريقية ، أم رومانية ، أم غير ذلك ، لطمس الذاكرة العربية ، ومحو معالم الحضارتين العربية والإسلامية وحتى المسيحية أيضا ، لأنهم أناس حمقى لا خلاق لهم ولا دين ولا قيم ولا مبادئ ، والغاية عندهم تبرر  الوسيلة ، مهما كانت فداحة هذه الوسيلة ، حتى لو كانت إبادة للبشر ، وتدميرًا للحجر ، وإهلاكا للحرث والنسل ، وطمسا لمعالم الحضارة الإنسانية  .

     وأسوأ ما في هذا الأمر أنه يرتكب باسم الإسلام ، ومن أناس يحسبون أنفسهم عليه ظلما وعدوانا ، وهو منهم براء ، وحتى لو كذبوا على أنفسهم وأوهموا ضحاياهم من الشباب الملتحقين بهم بأنهم على الحق ، فهم كما قال الحق سبحانه : ” وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ” ، ويقول سبحانه : ” قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ” ، ويقول سبحانه: ” وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ” .

     وقد أكد فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب شيخ الأزهر ، كما أكدت كل من وزارة الأوقاف ودار الإفتاء المصرية ، أنه لا يجوز الاعتداء على هذه المعالم الحضارية بأي لون من ألوان الاعتداء هدما أو تشويهًا أو بيعًا أو نهبًا أو تدميرًا ، وأن الاعتداء عليها هو اعتداء على الحضارة والتراث الإنساني.

     على أن الأمر الذي يلفت النظر ويثير الحيرة والدهشة ويدفع إلى العديد من الأسئلة هو موقف العالم الغربي والمؤسسات الدولية وصمتها الرهيب عن هذه الجرائم التي لو حدثت في أي مكان آخر من العالم غير منطقتنا العربية لقام العالم كله ولم يقعد .

     وإذا كان ذلك شأن أعدائنا الذين يخوضون ضدنا حروبا غير شريفة ، فإن ما يزيد من الجرح والألم هو تلك الفتاوى التي تدعم هذا العوج في التفكير وتغذيه ، مما يجعلنا نؤكد على ما أكدنا عليه مرارًا وتكرارًا من الحاجة الملحة إلى إصدار قانون ينظم شئون الفتوى ويقصرها على أهل الاختصاص دون سواهم .

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى