مقالات

من بلاغة التراكيب

Dr.Mokhtar-Gomaa

أ.د/ محمد مختار جمعة

وزير الأوقاف

     1- في قوله تعالى : ” فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ” (سورة النور : 36،37،38) .

       أولًا : في قوله تعالى : ” لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ ” جاء ذكر البيع بعد ذكر التجارة من باب ذكر الخاص بعد العام ، فما قيمة هذا التخصيص ؟

       لا شك في أن التجارة بيع وشراء ، وأن الربح عند البيع متحقق ناجز ، وعند الشراء متوقع أو مظنون لا يتم ولا يتحقق إلا عند البيع ، وقد يعرض للسلعة تلف أو كساد سوق أو تغير أحوال ونحو ذلك ، فلا يلزم من نفي إلهاء الشراء الذي هو قسيم البيع نفي إلهاء البيع ، في حين أن من ترك المكسب المتيقن كان ترك المظنون عليه أيسر ، فالتعبير القرآني بذكر البيع بعد التجارة يفيد شدة إقبالهم على الله بحيث لا يشغلهم عنه شيء ولو كان ربحًا متحققًا في أيديهم .

       ثانيًا : في قوله تعالى : ” وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ”  آثر النص القرآني التعبير بلفظ القيام دون الوقوف لأمرين :

      أحدهما : أن القيام يقتضي الثبات والتمهل ، أو الإقامة ونحوها ، يقال : أقام فلان بالمكان إذا لبث فيه واتخذه وطنًا ، وهذا يعني أن القائم للصلاة أو المقيم لها ينبغي أن يعطيها حقها من السكينة والطمأنينة .

       الآخر : أن القيام من معانيه العزم ، والمحافظة ، والاهتمام بالأمر ، يقال : قام فلان للأمر إذا تهيأ له واستعد ، وشمر عن ساعد الجد لقضائه ، والإسلام لا يريدها مجرد ركعات خاطفة ، إنما يريدها عبادة تنبع من عقيدة صادقة ، فتؤتي ثمرتها في إصلاح صاحبها ، فتقوم سلوكه ، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر ، وهذا لا يتأتّى إلا ممن تهيأ واستعد وأخذ الأمر بجد وعزيمة .

      وهنا يتوافق سياق النص مع سياقه القرآني الذي آثر لفظ القيام ومشتقاته دون لفظ الوقوف في جميع المواضع أو الآيات التي تحدثت عن الصلاة وإقامتها ، فقال سبحانه : ” وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ… ” (البقرة : 277 ) ، ” وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ … ” (البقرة : 3) ، ” لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ… ” (إبراهيم : 37) ، ” وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ … ” (البقرة : 43) ، ” قُمِ اللَّيْلَ … ” (المزمل : 2) ، ” سُجَّدًا وَقِيَامًا …” (الفرقان : 64) ، ” وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ … ” (النساء : 162) ، إلى غير ذلك من المواضع .

       ثالثًا : أكدت هذه الآية أن الذين يعمرون بيوت الله يذكرونه ويسبحونه هم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وهو ما أكدته – أيضًا – آية التوبة بأسلوب القصر ” إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ” (التوبة : 18) .

       وهو ما يؤكد التئام النسق القرآني ، وانسجام بعضه مع بعض ، وتفسيره بعضه لبعض ، وتقوية هذا المعنى لذلك ، وارتباطه به ، وإن تباعدت مواضع السور أو الآيات .

       رابعًا : لما كان فعل هؤلاء الرجال متميزًا في إخلاصهم لله ، وتركهم المكاسب الدنيوية ابتغاء رضوانه ، كان عطاء الله لهم خاصًا ومتميزًا ، فإنه سيجزيهم أحسن ما عملوا ، ويزيدهم من فضله ، وفي التذييل بقوله تعالى : ” وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ” ما يوحي بأن الله سيعطيهم عطاء لا حدود له ، أو سيرزقهم بما لم يكن في حسابهم ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .

    2- في قوله تعالى : ” وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ” (الأنعام : 100 ) ليس بخافٍ أن لتقديم الشركاء حُسنًا وروعةً ومأخذًا من القلوب لا تجد شيئًا منه إن أخّرت فقلت : وجعلوا الجنَّ شركاء لله ، وذلك لأنك لو قدمت فقلت : وجعلوا الجنَّ شركاء لله ، لكان الإنكار منصبًا على أن يكون الجن   شركاء لله ، أمّا لو قلت : وجعلوا شركاء لله الجن ، لكان الإنكار مؤكدًا مرتين :

       الأولى: إنكار اتخاذ أي شريك مع الله ( عز وجل ) من الجن أو من غيرهم .

       والأخرى : إنكار أن يكون الجنَّ شركاء لله من باب ذكر الخاص بعد العام ، لشدة تعلقهم بالجنَّ ورهبتهم منه .

     وهذا المعنى أقوى وأبلغ وأقطع في نفي أي شريك لله ( عز وجل ) سواء من الجن أم من غيرهم .

     وإذا تيقن الإنسان أنه لا شريك لله ( عز وجل ) لا من الجنَّ ولا من غيره اتجه قلبه وعقله إلى الله وحده ، فلا يخاف إلا من الله ( عز وجل ) ، ولا يعتمد إلا عليه ، فلا يغش ، ولا يكذب ، ولا يخادع ، لثقته ، أن الأمور كلها بيد الله وحده ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطأه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، يقول الحق سبحانه : ” إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ” (يس : 82) .

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى