مشروعية الدولة الوطنية
في السياق والمناخ الفكري الصحي لا يحتاج الثابت الراسخ إلى دليل , لكن اختطاف الجماعات المتطرفة للخطاب الديني واحتكارها له ولتفسيراته جعل ما هو في حكم المسلمات محتاجًا إلى التدليل والتأصيل , وكأنه لم يكن أصلا ثابتًا , فمشروعية الدولة الوطنية أمر غير قابل للجدل أو التشكيك , بل هو أصل راسخ لا غنى عنه في واقعنا المعاصر , حتى أكد بعض العلماء والمفكرين أن الدفاع عن الأوطان مقدم على الدفاع عن الأديان , لأن الدين لا بد له من وطن يحمله ويحميه , وإلا لما قرر الفقهاء أن العدو إذا دخل بلدًا من بلاد المسلمين صار الجهاد ودفع العدو فرض عين على أهل هذا البلد رجالهم ونسائهم , كبيرهم وصغيرهم , قويهم وضعيفهم , مسلحهم وأعزلهم , كل وفق استطاعته ومكنته , حتى لو فنوا جميعا , ولو لم يكن الدفاع عن الديار مقصدًا من أهم مقاصد الشرع لكان لهم أن يتركوا الأوطان وأن ينجوا بأنفسهم وبدينهم .
وتعني الدولة الوطنية احترام عقد المواطنة بين الشخص والدولة , وتعني الالتزام الكامل بالحقوق والواجبات المتكافئة بين أبناء الوطن جميعا دون أي تفرقة على أساس الدين أو اللون أو العرق أو الجنس أو اللغة , غير أن تلك الجماعات الضالة المارقة المتطرفة المتاجرة بالدين لا تؤمن بوطن ولا بدولة وطنية , فأكثر تلك الجماعات إما أنها لا تؤمن بالدولة الوطنية أصلا من الأساس , أو أن ولاءها التنظيمي الأيديولوجي فوق كل الولاءات الأخرى وطنية وغير وطنية , فالفضاء التنظيمي لدى هذه الجماعات أرحب وأوسع بكثير من الدولة الوطنية والفضاء الوطني .
وتسوّق سائر الجماعات المتطرفة أنها حامية حمى الدين ، وأنها إنما تسعى لتطبيق حكم الله (عز وجل) وإقامة شرعه ، ونتساءل : أين ما تقوم به هذه الجماعات من قتل ونسف وتفجير وتدمير وسفك للدماء وانتهاك للأعراض وسبي للحرائر ونهب للأموال وترويع للآمنين من شرع الله وحكمه.
إن ما تقوم به هذه الجماعات المتطرفة هو عين الجناية على الإسلام , ذلك أن ما أصاب الإسلام من تشويه لصورته على أيدي هؤلاء المجرمين بسبب حماقاتهم لم يصبه عبر تاريخه على أيدي أعدائه من التتار بما ارتكبوه من مجازر في الماضي وما يصيبه على أيدي داعش ، والقاعدة , والنصرة ، وبوكو حرام ، وأضرابهم في الحاضر.
ونستطيع أن نؤكد وباطمئنان على أمور ، أهمها :
الأول : أن الإسلام لم يضع قالبا جامدًا لنظام الحكم لا يمكن الخروج عنه , إنما وضع أسسا ومعايير متى تحققت كان الحكم رشيدًا يقره الإسلام , وفي مقدمتها مدى تحقيق الحكم للعدل والمساواة وسعيه لتحقيق مصالح البلاد والعباد , ولا إشكال بعد ذلك في الأسماء أو المسميات , لأن العبرة بالمعاني والمضامين لا بالأسماء ولا بالمسميات .
الثاني : أنه حيث تكون المصلحة ، ويكون البناء والتعمير ، فثم شرع الله وصحيح الإسلام ، وحيث يكون الهدم والتخريب والدمار فثمة عمل الشيطان وجماعات الفتنة والدمار والخراب .
الثالث : أن العمل على تقوية شوكة الدولة الوطنية مطلب شرعي ووطني ، وأن كل من يعمل على تقويض بنيان الدولة أو تعطيل مسيرتها ، أو تدمير بناها التحتية ، أو ترويع الآمنين بها ، إنما هو مجرم في حق دينه ووطنه معًا .
الرابع : أننا في حاجة ملحة إلى إعادة قراءة تراثنا الفكري قراءة دقيقة واعية تفرق بين الثابت والمتغير , بين ما ناسب عصره وزمانه ومكانه من اجتهادات الفقهاء وما يتطلبه عصرنا ومستجداته من قراءة جديدة للنصوص يقوم بها أهل العلم والاختصاص لحل إشكاليات الحاضر وبخاصة فيما يتصل بأحكام المواطنة إلى جانب تأصيل فقه العيش الإنساني المشترك , وبيان أن أمن الأوطان والمواطنين لا يتجزأ وإنه لا يتحمل التجزئة أو التصنيف , وقد ذكر الإمام ابن حزم (رحمه الله) أن من كان بيننا من أهل الذمة وجاء من يقصدونهم بسوء وجب علينا أن نخرج لحمايتهم بالسلاح وأن نموت دون ذلك , لا أن نستحل دماءهم أو أموالهم أو أعراضهم .