:أهم الأخبارمقالات

مخاطر التوظيف الأيدلوجي للدعاة

تأثر إعداد الدعاة وتكوينهم في العقود الماضية بتوجهات وأيدلوجيات ونظريات عديدة ، فقد تأثر إلى حد كبير بتوجيهات وأيدلوجيات وتخوفات وصلت إلى حد الانعزال عن الواقع تارة والتصادم معه أخرى وبخاصة لدى بعض التيارات الأيدلوجية وبخاصة المنحرفة والمتطرفة والرامية إلى توظيف الدين لمكاسب سياسية أو مالية أو أيدلوجية.

فبعض التيارات التي تاجرت بالدين لتحقيق مكاسب سياسية أو حزبية أو أيدلوجية جماعة الإخوان الإرهابية ومن دار في فلكها من الجماعات والأحزاب والتيارات التي انضوت تحت لوائها أو تحالفت حزبيًّا أو سياسيًّا أو نفعيًّا معها ، حيث تعتمد هذه التيارات على ترسيخ مبدأ السمع والطاعة الأعمى ، فأكثر الجماعات المتطرفة تعطي كلام البشر ضربًا من القداسة قد يصل لدى بعض عناصرها إلى مساواة قدسيته لكلام الخالق عز وجل ، كوسيلة للسيطرة على أتباعهم والعمل على تسليمهم المطلق لرأي مرشدهم ، فكلام بعض علماء العقيدة أو حتى علم الكلام ، وبعض المحسوبين على الدعوة من غير المتخصصين ، أو كلام بعض كتاب التاريخ والسير ، قد يرقى عند بعض أصحاب الفكر المتطرف إلى درجة النص القرآني ، على أن أحدهم قد يجادلك في فهمك للنص القرآني إن تناقض مع شيء من كلام شيخه أو مما دُسَّ له عبر كتبهم ومحاضراتهم وتفسيراتهم وتأويلاتهم ، فكلام أدعياء العلم منهم يأخذونه على أنه حكم الله المنزه عن الأهواء ، والذي لا يُردُّ ولا يُناقَش ، حيث يؤصلون لمبدأ الطاعة العمياء ، فمجرد محاورة الشيخ أو مرشد الجماعة أو مراجعته أو مناقشته هي ردة يجب التوبة منها أو العقاب عليها , بحيث صار بعض من يؤثرون السلامة لا يجرؤون على البوح بمجرد التفكير في المناقشة أو المراجعة , مع أخذ كلام الشيخ غير المعصوم أو المنزه عن الأعراض البشرية مأخذ النص المقدس , بل إن أحدهم قد يسمح لنفسه بأن يناقشك في النص القرآني أو النبوي وطرائق الاستدلال به , غير أنه لا يسمح لك ولا لنفسه بمراجعته في إملاءات شيخه أو أميره التنظيمي أو مرشده.

على أن أعضاء هذه الجماعات ينظرون إلى من ليس معهم على أنه عدو ويجب الحذر منه والنظر إليه بعين الريبة والعداء للدين ، ولا يعذرون أحدًا بأي عذر إنما يرون في كل من خالفهم مارقًا عن الدين ، وعدو له ومتربص به ، وربما كان هؤلاء أو بعضهم أكثر منهم حبًا للدين وحرصًا عليه وحماية الله .

وهناك التيارات الجامدة التي انكفأت على بعض المصادر التراثية القديمة في كل ما ورد بها حتى مما ناسب عصره وزمانه ومكانه نصًّا مقدسًا غير قابل للتفكير أو إعادة الاجتهاد ، أو إعادة إعمال العقل ، وهذه معضلة كبرى ، هي معضلة الجمود ، من هؤلاء المنغلقين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أن باب الاجتهاد قد أغلق ، و أن الأمة لم ولن تلد مجتهدًا بعد ، وأنها عقمت عقمًا لا براء منه ، متناسيين أو متجاهلين أن الله ( عز وجل ) لم يخص بالعلم ولا بالفقه قومًا دون قوم ، أو زمانًا دون زمان ، وأن الخير في أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى يوم القيامة.

وإذا كان هذا الإنغلاق والإنكفاء على الذات قد أدى إلى هذا الجمود ، فإن واجبنا أن ننفتح وبكل قوة وحكمة وعقل على واقعنا المعاصر ، نتفاعل معه ، ونعيش فيه ، وندرس متطلباته ومستجداته ، ونعيد النظر فيما يحتاج إلى إعادة النظر من تلك الفتاوى التي ناسبت عصرها وزمانها ومكانتها في إطار الحفاظ على الثوابت وعدم المساس بها من جهة ، وبيان أن الفتوى قد تتغير بتغير  الزمان والمكان والأحوال ، والأحوال والأشخاص ، فما يكون راجحا في عصر قد يكون مرجوحا في وقت آخر ، وما يكون مرجوحا تارة في وقت قد يكون راجحا في وقت آخر .

نحن لسنا في حاجة إلى تجديد وتصويب الخطاب الديني فحسب بل إننا لفي حاجة ماسة إلى تجديد وتصويب الخطاب الديني والعقلي والعلمي والثقافي والتربوي ، لننقل للعالم كله الوجه المشرف لديننا السمح من جهة ، أو تصحيح المفاهيم الخاطئة ، وتفكيك مقولات المتطرفين ، ونسهم إسهامًا جادًّا في صنع الحضارة ونشر السلام في العالم كله من جهة أخرى .

فشتان بين العالم الحر والعالم المؤدلج ، فالعالم الحر الذي لا يقيده شيء سوى ما يمليه عليه دينه وضميره ووطنيته هو ذلك الأنموذج الذي نبحث عنه , وهو القادر على خدمة دينه ووطنه وقضايا أمته دون أي حسابات مربكة , أما العالِم المؤدلَج أو المقولب أو الموجه أو الموظف لخدمة جماعة ما لا يمكن أن يكون إلا عبدًا لهذه الجماعة , ذلك أن الجماعة تأخذ من العالِم أمر دينه لتقايضه بفتات زائل من دنيا الناس , ومهما عظم أمر هذا الفتات لا يعدو كونه عرضًا زائلاً وحطامًا فانيًا.

إن أكثر العلماء الذين وظفوا أنفسهم لصالح جماعات أو أيدلوجيات جماعات وطوائف بعينها وانساقوا خلف توجهاتها خسروا حياديتهم ومصداقيتهم وأنفسهم وربما دينهم في آن واحد.

 

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى