ما عند الله خير
قال أحد الحكماء : لقد أكلت في الدنيا حتى سئمت الحلو والحامض ، ولبست حتى سئمت الخشن والناعم ، ووهنت العظام ، وخارت القوى ، وعلى حد قوله تعالى : ” وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ” (يس : 68) ، ويقول زهير بن أبي سلمى :
سَئِمتُ تَكاليفَ الحَيـــاةِ وَمَن يَعِش |
ثمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَســـــــــــــأَمِ |
ويقول الآخر :
إن الثـمــانين وبُلِّـغْـتَـهـــــــــــــــــــــــا |
قد أحوجتْ سمعي إلى ترجُمـــانْ |
ويقول الآخر :
إذا كنت في قوم وخلفت دونهمُ |
وأدركت غيرهــــــــــم فأنت غريبُْ |
وإذا وصل الإنسان إلى مرحلة لا ينفع فيه ولا يضر ، صار عبئًا ثقيلاً على من حوله ، لا يرجى نفعه ولا يخُشى بأسه ، ولا يكاد يُسمع إليه ، يظنه من حوله عالة وكلاًّ ، حتى وإن كان هو الذي علّم وربّى ، وبنى وشيّد ، وأسسّ ومجّد ، فكل ذلك يكاد يتلاشى أو يتناسى ، وقد يرى الإنسان ما شيده وكد فيه وتعب مسلوبًا منه طوعًا أو كرهًا في يد ابن غير بار أو حفيد غير وفيّ ، فيصيبه ما يصيبه من الألم والحسرة التي تكاد تذبحه .
وقد يجد الإنسان مثل ذلك من صديق أو جار أو زميل أحسن هو يومًا أو أيامًا إليه فتنكروا له ، وقابلوا إحسانه إليهم بالإساءة ، وجميله بالنكران ، بل ربما بالجحود والكفران ، فيعض يد الندم على ما كان حين لا ينفع الندم وبعد فوات الأوان ، حيث لا إدراك ولا استدراك.
على أن كل ذلك إنما هو حال من كانت الدنيا همه أو كان عبدًا أسيرًا لها ، يدور حيث تدور ، ولا يكاد يسلّم بسنن الله في الكون ، حيث يقول سبحانه : ” اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ” (الروم : 54) .
أما من أدرك أن طبيعة الدنيا وأنها إلى زوال أو تغير وانقلاب ، وأنها لا تدوم على الحال، فهي كما قال البارودي.
إذا أحسنتْ يوماً أساءت ضُحى غــــدٍ |
فَإِحْسَانُهَا سيْفٌ عَلَــى النَّاسِ جَــــــــائِرُ |
تــــــربُّ الفتى ، حتَّى إذا تـــمَّ أمـــــرهُ |
دَهَتْــــهُ، كَما رَبَّ الْبَهِيمَــــــــــــة َ جَازِرُ |
وأنها إذا حلت أوحلت ، وإذا جلت أوجلت ، وإذا كست أوكست ، فعرفها حق معرفتها ، على حد قول المتنبي:
عَرَفْنا اللَّيالي قَبلَ مَا نَزَلَت بِنَا |
فلمَّـــا دَهَتْنَا لَمْ تَزِدْنَا بِهَا عِلْما |
فأعمَلَ عقله في ضوء معرفته بحقيقتها ، فما أمن مكرها يومًا ، ولا اغتّر بإقبالها عليه ، ولا بإغرائها له، وكان نصب عينيه “وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” (القصص : 77) ، وقوله تعالى: ” مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ” (النحل : 96) ، وقوله تعالى : ” وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ” (القصص : 60) ، فآثر الباقية على الفانية ، وأخذ من دنياه لآخرته ، ومن صحته لسقمه ، ومن شبابه لشيخوخته ، ومن الحياة لما بعد الممات ، فربح الاثنين مع راحة البال ، وسكينة النفس ، وطمأنينة القلب ، والرضا بقضاء الله وقدره له أو عليه ، واضعًا نصب عينيه حقيقة لا شكلاً قول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكان خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ ” ، وعلم أن ما يطرأ له قد يكون ظاهره شرًا وباطنه خيرًا أو العكس ، حيث يقول الحق سبحانه : ” وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ” (البقرة : 2016 ) فرضي بما قسمه الله (عز وجل) له ، فكان أحمد الناس ، وأشكر الناس ، وأسعد الناس في دنياه وآخرته .