ماذا خسر العالم الإسلامي بظهور جماعات التطرف الديني؟
لقد ظهرت حركات تحرر وطنية في كثير من دول العالم تدعو إلى الاستقلال عن قوى الاستعمار ، بعضها تحت مسمى حركات الاستقلال والأخرى تحت مسمى حركات التحرر أو التحرير ، وقد حقق معظمها أهدافه ووصل إلى ما يصبو إليه دون أن يجعل من الدين ستارًا ، بل إن حركات التحرر والاستقلال الوطني ضمّت في كثير من الدول أصحاب أديان وعرقيات مختلفة ، جمعهم جميعا وحدة الهدف ومصلحة الوطن .
أما ظهور أحزاب وجماعات التطرف الديني فقد جرّ على منطقتنا العربية وعلى كثير من الدول الإسلامية ويلاتٍ كثيرة ، وبخاصة بعد أن بدت ظاهرة التكسب بالدين أو المتاجرة به واضحة لدى كثير من الحركات والجماعات التي عملت على توظيف الدين لتشويه خصومها من جهة ، وتحقيق مطامعها السلطوية من جهة أخرى ، فصارت محاربة الإسلام تهمة جاهزة لكل خصوم هذه الجماعات المتطرفة.
ناهيك عن تجاوز ذلك إلى تهم التخوين والتكفير والإخراج من جماعة المسلمين ، بل الحكم على المخالفين أحيانًا بأن أحدًا منهم لن يجد رائحة الجنة ، وإن رائحتها لتوجد من مسيرة كذا ومسيرة كذا ، وبدا خلط الأوراق واضحًا جليًا عن عمد لا عن غفلة لدى أكثر هذه الجماعات ، بل إن الأمر قد ذهب إلى أبعد من هذا عندما نصّبت هذه الأحزاب والحركات والجماعات نفسها وصيًا على الدين ، مع فقدان كوادرها للتفقه الصحيح فيه أو حتى في الإلمام بمقوماته ، وخروج بعضهم علينا بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان ، اللهم إلا سلطان الهوى والسلطة وحب الظهور أحيانًا .
لقد رأينا في تجربة الإخوان المرة إلى أي مدى وصل الهوس بالسلطة ، وحب الظهور الإعلامي ، والإحساس غير المسبوق بالنشوة والتميز الذي وصل لدى بعضهم إلى درجة العنصرية المقيتة التي ولدت إقصاء ممنهجًا لكل من لا يسير في ركابهم أو يرضى عنه تنظيمهم ومرشدهم ، حتى لو كان هذا المرشد المزعوم أجهل الخلق بسياسة الدول أو قيادة الأوطان ، وقطعوا كل ما من شأنه تحقيق ولو أدنى درجات التواصل مع القوى الوطنية والمجتمعية ، فأخذوا يكيلون لها تهمًا ما أنزل الله بها من سلطان ، ويدبرون مكائد مكشوفة لا يليق أن تصدر عن ساسة ولا حتى سوقة لمؤسسات وطنية عريقة ، بل كل المؤسسات الوطنية العريقة ، ولا يخفى على أحد ما كان من حصار المحكمة الدستورية ، وتخفيض عدد أعضائها نكاية ببعض قضاتها ، وما تبع ذلك مما عرف آنذاك بالإعلان الدستوري المكمل أو قل دون تردد المكمم ، الذي أريد له أن يجعل من رئيسهم المعزول نصف إله على الأقل ، مما يستدعي إلى الذاكرة ما ذكره القرآن الكريم عن فرعون مصر حين قال كما ذكر القرآن الكريم على لسانه : ” مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ” ، ولم تسلم مؤسسة وطنية واحدة من محاولة تفكيكها وإعادة بنائها بطريقتهم ، فإن لم يستطيعوا عمدوا إلى غمزها ولمزها وهدمها ، أما المفكرون والمثقفون والإعلاميون فنالهم النصيب الأوفى من تهم الخيانة والعمالة وسائر الأوصاف التي يعفّ أي مسلم عاقل عن رمي أي إنسان بها بلا بينة ولا دليل قاطع .
لقد أعطى هؤلاء المتسترون بالإسلام الذرائع أكثر من مرة لأعداء الأمة للتدخل في شئونها تحت ذرائع متعددة المعلن منها مواجهة الإرهاب ، ثم خرجت من عباءة هذه الجماعات والحركات والأحزاب جماعات يائسة أخذت تتبنى العنف والإرهاب والتكفير والتفجير والعمليات الانتحارية مسلكًا ومنهجًا ، ووجدت بعض قوى الاستعباد المسمى الاستعمار الجديد في هذه الجماعات اليائسة من التكفيريين والانتحاريين ضالتها ، فتعهدتها ونمتها وغذتها وأمدتها بالمال والسلاح ، لتحقيق مآربها في تفتيت كيان المنطقة العربية والاستيلاء على نفطها وخيراتها ومقدراتها من جهة ، وتشويه صورة الإسلام وربطه بالإرهاب من جهة أخرى .
فبعد أن كان المسلمون هم رسل السلام إلى العالم أخذت صورتهم تُسوّق على أنها رديف الإرهاب والقتل والدمار ، ومن كان لديه ذرة من المكابرة فلينظر فيما أصاب دولا بأكملها كـ : ليبيا ، وسوريا ، والعراق ، وأفغانستان ، واليمن ، وباكستان ، والصومال ، ومالي ، وكثير من دول وبلاد الإسلام .
إنني أرى أن تُؤثِر جميع الأحزاب والحركات والجمعيات الوطنية المصلحة الحقيقية للوطن على أي مصالح أخرى ، فتعمل من منطلقات وطنية محضة لا يستغل فيها الدين ولا تتم المتاجرة به أو اللعب بعواطف العامة من خلال استغلاله ، وأن يترك المجال الديني للعلماء والدعاة المتخصصين الفاقهين ، لعلهم يستطيعون أن يصلحوا ما أُفسدَ قبل فوات الأوان ، وقبل أن تأتي عاصفة لا تبقي ولا تذر .
إن البشرية الآن في حاجة إلى من يحنو عليها من جديد ، ومن يأخذ بيدها إلى طريق الهداية وإلى مكارم الأخلاق ، بالعمل لا بالقول وحده ، وبالحكمة والموعظة الحسنة لا تحت تهديد السلاح ولا حد السيف ، استجابة لقوله تعالى : ” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّعَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ” .
إن هناك كثيرًا من دول العالم التي كانت ترسل طلابها إلى بعض الدول الإسلامية لتتعلم سماحة الإسلام صارت تتخوف على أبنائها أن يأتوا إلى هذه البلاد خوفًا من أن يعودوا إليهم إرهابيين أو متشددين ، وإن بعض الدول التي كانت تفتح أبوابها للعمل أمام أبناء دولنا صارت أبوابها موصدة مغلقة خوف تسلل الإرهابيين بينهم ، ألا يستحق كل هذا من هذه الجماعات والحركات والأحزاب أن تراجع نفسها وتعود إلى رشدها وصوابها ، لله وللأوطان .
ولا يمكن لعاقل أو وطني أو فاهم لدينه فهمًا صحيحًا أن ينكر أن حصاد دعوة هذه الجماعات المتطرفة المتدثرة ظلمًا وزورًا وزيفًا بعباءة الدين ، والجمعيات التي تعمل تحت غطاء الخيرية من تلك التي استخدمتها هذه الجماعات كغطاء مجتمعي لها كان حصادًا مرًا شديد المرارة ، فقد زرعوا أشواكًا ، فجَنَينا حنظلا وعلقمًا ..
لقد أكدنا في أحاديث متنوعة أن دور الجمعيات الخيرية ينبغي أن ينحصر في مهامها الإنسانية والاجتماعية والطبية ، وأنها إن كانت صادقة في رسالتها ، وفي خدمة مجتمعها ، ولا تهدف إلى مصالح خاصة : مذهبية ، أو حزبية ، أو خدمة ” أجندات ” خارجية ، و تعي أن مصلحة وطنها فوق أي اعتبار وكل اعتبار ، فلتترك الدعوة إلى علماء الأزهر والأوقاف والإفتاء المتخصصين ، وتُسلّم عن رضا وطيب نفس الأمر إلى أهل الاختصاص .
أما الذي حدث في العقود والسنوات الأخيرة من جماعة الإخوان الإرهابية ، ومَن دار في ركابها من الجماعات الإرهابية المتشددة وبعض الجمعيات التي أعلنت عن هويتها وكشفت عن حقيقتها بمجرد وصول الإخوان إلى السلطة ، وتبنّى كثير منها أفكارًا مقحمة على ثقافتنا الإسلامية الصحيحة السمحة ، وعلى روحنا المصرية الأصيلة ، وعادتنا وقيمنا الراسخة ، وثقافتنا وبنائنا الحضاري الذي لا يعرف العنف ولا الإرهاب ، فنشأت موجات التشدد والتكفير ، والإرهاب والتفجير ، فجد خطير ، والطامة الكبرى أن يُرتكَب ذلك كله أو أكثره باسم الدين ، ويكون التفجير والقتل تحت صيحات التكبير والتهليل ، والإسلام من كل ذلك براء .
وحتى يتخلص المجتمع المصري من تلك الآثار السلبية ، كان لابد من إجراءات في مجال ضبط الخطاب الدعوي ، والحفاظ عليه من أن تخطتفه موجات التشدد من جديد ، أو أن تعود به إلى أيام سئمها المصريون جميعًا حين أخذ الخطاب الديني يشق الصف المصري بدلا من أن يعمل على جمعه ، وكان من أهم أسباب ذلك اقتحام غير المتخصصين لمجال الدعوة والفتوى بإلباس السياسة ثوب الدعوة ، وتوظيف المجال الديني للمصالح الحزبية والسياسية والفئوية ، ومن هنا كان لنا بعض الإجراءات التي نريد أن تصل إلى واقع ملموس حتى نقضي على آثار هذا التشدد ، منها:
1- قصر الخطبة على المسجد الجامع ، وعلى المتخصصين من علماء الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف .
2- إسناد الأمر إلى أهله ، فلا شك أن السياسة الشرعية تقتضي إسناد كل أمر إلى أهله المتخصصين فيه ، سواء من القيام على شئون الجند ، أو شئون الشرطة ، أو شئون الأسواق ، أو شئون المساجد ، وسائر شئون الدولة ، وفق ما ينظمه قانون كل دولة ودستورها ، وما كان لعامة الناس أو خاصتهم أن يفتئتوا على الحاكم أو الرئيس أو النظام القانوني للدولة بأن يحاول كل فريق منهم أن يقتطع لنفسه جزءًا من هذه الاختصاصات خارج نطاق الدولة ، أو إقامة سلطة موازية لسلطتها الرسمية ، فلا تكون هناك دولة قوية ولا نظام محكم ، إنما هي مسئوليات ينظمها الشرع والقانون معًا، وهما من أناطا وفق السياسة الشرعية والتنظيم القانوني أمر الدعوة بالمساجد إلى وزارة الأوقاف المصرية ، ومن هنا كان عملنا إلى إزالة جميع اللافتات التي ترتبط بالجماعات أو الجمعيات من على واجهات المساجد شكلا ومضمونًا.
3- قصر الفتوى على أهلها المتخصصين ، فلا يسمح لغير المتخصصين بالفتوى ، ومازلنا في انتظار خروج قانون الفتوى الذي انتهت منه اللجنة الدينية بمجلس النواب إلى عالم النور ، لضبط شئون الفتوى ، وهو ما نؤمل صدوره في دور الانعقاد القادم للمجلس الموقر بإذن الله تعالى .
4- قصر صدور المجلات الدينية على الجهات المتخصصة بالأزهر الشريف ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء المصرية.
ونؤكد أننا لسنا ضد العمل الاجتماعي والإنساني للجمعيات الوطنية التي تعمل في النور تحت إشراف وزارة التضامن الاجتماعي والجهات المعنية بالدولة ، بل إن من واجبنا الدعوي والوطني في وزارة الأوقاف أن ندعم الدور الاجتماعي والإنساني والطبي والتنموي الذي تقوم به هذه الجمعيات لتقديم خدمة حقيقية للمجتمع والإسهام في تنميته ، لكننا في الوقت نفسه نؤكد أننا في وزارة الأوقاف لن نسمح لهذه الجمعيات أن تقتحم مجال الدعوة من خلال المساجد أو غيرها تحت غطاء العمل الخيري ، وأننا سنقاوم بكل قوة وحسم أي محاولات لهذه الجمعيات وقياداتها لاقتحام المساجد دعويًا أو اختراقها فكريًا أو استخدامها سياسيًا.