في رحاب الفهم المقاصدي
“حديث العلم”
“حديث العلم”
يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، وَرَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ”(سنن أبي داود) .
فالمراد بالعلم مطلق العلم النافع ، وليس التفقه في العلوم الشرعية فحسب ، فقد جاءت كلمة “علمًا” نكرة لإفادة العموم والشمول .
والمراد بالعلم النافع كل ما يحمل نفعًا للناس في شئون دينهم ، وشئون دنياهم ، في العلوم الشرعية أو العربية, أو علم الطب, أو الصيدلة, أو الفيزياء , أو الكيمياء , أو الفلك, أو الهندسة, أو الميكانيكا أو الطاقة , وسائر العلوم والمعارف , وأرى أن قوله تعالى : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}( الزمر: 9) , وقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}( النحل: 43) أعم من أن نحصـر أيًّا منهمـا
أو نقتصره على علم الشريعة وحده , فالأمر متسع لكل علم نافع ، والمراد بأهل الذكر أهل الاختصاص ، كلٌّ في مجاله وميدانه .
فقيمة العلم إنما تشمل التفوق في كل العلوم التي تنفع الناس في شئون دينهم أو شئون دنياهم , ولذا نرى أن قول الله (عز وجل) : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(فاطر: 28) ، جاء في معرض الحديث عن العلوم الكونية , حيث يقول سبحانه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }( فاطر: 27، 28) , ويقول سبحانه : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ( آل عمران : 190- 191) .
ويقول الحق سبحانه وتعالى : {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}( التوبة: 122) ، فإذا كان المطلوب هو أن ينفر نفرٌ أو جماعة من كل فرقة ليتفقهوا في علوم الدين ، ويبينوا لقومهم حكمه وأحكامه، مبشرين لهم ومنذرين لعلهم يحذرون ويتقون ، فإن على الباقين من أهل هذه الفرقة أن ينفروا أيضًا فيما ينفع البلاد والعباد ، فتنفر جماعة لطلب الطب ، وأخرى لطلب الهندسة ، وثالثة للعمل بالزراعة ، ورابعة للعمل في الصناعة ، وخامسة للاشتغال بالتجارة ، وهكذا في سائر الفنون والحرف والصناعات .
ومما لا شك فيه أننا في حاجة إلى جميع العلوم التي نعمر بها دنيانا ونحقق بها اكتفاءنا الذاتي في جميع جوانب حياتنا ، ونؤدي من خلالها رسالتنا في عمارة الكون وبناء الحضارات ، كما أننا في حاجة إلى العلوم التي يستقيم بها أمر ديننا ، ونخلصه بها من أباطيل وضلالات الجماعات الضالة والمنحرفة .