أهم الأخبارمقالات

في ذكرى المولدين

Mokhtar
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

      يمر الشعب المصري والأمة العربية بمناسبتين هامتين متداخلتين هما ذكرى مولد الحبيب محمد بن عبد الله  (صلى الله عليه وسلم) الذي بعثه ربه رحمة للعالمين ، فقال سبحانه وتعالى : ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ” (الأنبياء : 107) ، وقدوم العام الميلادي الجديد ، لتتداخل أفراح المصريين جميعًا مسلمين ومسيحيين بذكرى ميلاد الرسولين الأخوين محمد وعيسى (عليهما السلام) ، فيتبادل الجميع التهاني مما يؤصل للروح الوطنية ويعود بالروح المصرية إلى طبعها الأصيل من التسامح وفقه التعايش وقبول الآخر ، وهو ما أصَّله ديننا الحنيف ورسولنا الكريم عند بناء دولة المدينة ، حيث تعد وثيقة المدينة أفضل وثيقة بشرية في تاريخ الإنسانية تُرسّخ فقه التعايش السلمي بين البشر ، حيث أكد نبينا (صلى الله عليه وسلم) ، أن يهود بني عوف، ويهود بني النجار، ويهود بني الحارث، ويهود بني ساعدة، ويهود بني جشم، ويهود بني الأوس، ويهود بني ثعلبة، مع المؤمنين أمة، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وأنَّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وأن الجار كالنفس غير مُضار ولا آثم، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأن من خرج منهم فهو آمن، ومن قعد بالمدينة فهو آمن، إلا من ظلم أو أثم ، وأن الله (عز وجل) جارٌ لمن بَر واتقى، ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، (السيرة النبوية لابن هشام) .

      فأي إنسانية، وأي حضارة، وأي رقي، وأي تعايش سلمي، أو تقدير لمفاهيم الإنسانية يمكن أن يرقى إلى ما كان من تسامح رسول الله وإنصافه، ألا ترى إلى قوله (صلى الله عليه وسلم): «لليهود دينهم»، قبل أن يقول: «للمسلمين دينهم»، ليكون في أعلى درجات الإنصاف والتسامح، والتأكيد على حرية المعتقد؛ إذ لا يوجد في الإسلام قتل على مجرد الهوية أو المعتقد ، فعندما رأى النبي امرأة مقتولة في الحرب قال مستنكراً: «من قتلها؟ ما كانت هذه لتقاتل»، وبعث رجلاً فقال: «قُلْ لخالد لا يَقتُلنَّ امرأةً ولا عَسيفًا» (أبو داود في سننه) .

       فالأديان جميعا جاءت لصالح الإنسان ، وهناك مشتركات إنسانية بين البشر جميعًا عملت جميع الأديان على احترامها وترسيخها ، وقد ذكر ابن عباس وغيره أن الشرائع السماوية قد أجمعت عليها ولم تختلف في ملة من الملل أو شريعة من الشرائع السماوية ، وهي ما ورد في قوله تعالى : ” قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ                       تَعْقِلُونَ *‏ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ” .

      فقد أجمعت الشرائع السماوية على جملة كبيرة من القيم والمبادئ الإنسانية ، من أهمها: حفظ النفس البشرية قال تعالى:  ” أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً “.

      ولهذا قدَّر نبينا صلى الله عليه وسلم للنفس الإنسانية حرمتها، فلما مرت عليه جنازة يهودي وقف لها، فقيل له : إنها جنازة يهودي ، فقال صلى الله عليه وسلم: أليست نفساً ؟!.

       ومن القيم التي أجمعت عليها الشرائع السماوية كلها: العدل، والتسامح، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة ، والصدق في الأقوال والأفعال ، وبر الوالدين ، وحرمة مال اليتيم ، ومراعاة حق الجوار،والكلمة الطيبة، وذلك لأن مصدر التشريع السماوي واحد، ولهذا قال نبينا  (صلى الله عليه وسلم) :- ” الأنبياء إخوة لعلَّات أممهم شتى ودينهم واحد ” ، فقد تختلف الشرائع في العبادات وطريقة أدائها وفق طبيعة الزمان والمكان، لكن الأخلاق والقيم الإنسانية التي تكون أساساً  للتعايش  لم تختلف في أي شريعة  من الشرائع، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ” .

       وأروني أي شريعة من الشرائع  أباحت قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، أو أباحت عقوق الوالدين ، أو أكل السحت، أو أكل مال اليتيم ، أو أكل حق العامل أو الأجير ، وأروني أي شريعة أباحت الكذب ، أو الغدر، أو الخيانة، أو خُلف العهد، أو مقابلة الحسنة بالسيئة .

         بل على العكس فإن جميع الشرائع السماوية قد اتفقت وأجمعت على هذه القيم الإنسانية السامية، من خرج عليها فإنه لم يخرج على مقتضى الأديان فحسب، وإنما يخرج على مقتضى الإنسانية وينسلخ من آدميته ومن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها . .

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى