فهم حقيقة الزهد
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ” ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبّوكَ ” .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ ، وَرُزِقَ كَفَافًا ، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : ” إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ” .
وعن عَبْد اللهِ بن مسعود (رضي الله عنه) قَالَ : ” نَامَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً ؟ فَقَالَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا “ .
فالحديث الأول مرماه ترسيخ معنى العفاف ، والثاني يرسخ لثقافة الزهد ، والثالث ينحو منحى التحذير من الغفلة ، والرابع يرمي إلى معرفة حقيقة الحياة الدنيا .
فالزهد أمر قلبيّ وليس أمرًا شكليًّا ، وهو لا يعني أبدًا الانعزال عن الحياة ، ولا ترك الأخذ بالأسباب والتقاعس عن عمارة الكون وصناعة الحياة ، غير أن بعض الناس قد يفهمون الزهد على غير وجهه الحقيقي ، حيث يرتبط الزهد في أذهان بعضهم بجوانب شكلية لا علاقة لها بحقيقته , فيتوهمون خطأً أن الزهد رديف الفقر أو حتى الفقر المدقع, فالزاهد في تصور البعض شخص بالضرورة قليل المال , وربما قليل الحيلة , وربما رث الثياب أو مخرقها , صوته لا يكاد يبين , ويده لا تكاد تلامس مصافحها , ثم تطور الأمر إلى سلبية أشد بهجر العمل , وربما ترك الدراسة العلمية أو عدم الاكتراث بها , والخروج من الدنيا بالكلية إلى عالم أقرب ما يكون إلى الخيالات الخاطئة منه إلى دنيا الواقع , في تعطيل مقيت وغريب وعجيب وشاذ للأسباب , مع أن ذلك كله شيء والزهد شيء آخر .
وقد قال أهل العلم : ليس الزاهد من لا مال عنده ، إنما الزاهد من لم تشغل الدنيا قلبه ولو ملك مثل ما ملك قارون , وسئل الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله تعالى) : أيكون الرجل زاهدًا وعنده ألف دينار ؟ قال : نعم , إذا كان لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت , ولذا كان من دعاء الصالحين : اللهم اجعل الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا .
ولا شك أن النظرة الخاطئة للزهد جرَّت إلى السلبية والاتكالية والبطالة والكسل والتواكل والتخلف عن ركب الأمم , مع أن ديننا هو دين العمل والإنتاج والإتقان والأخذ بالأسباب , يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ( لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ) , فهي تغدو وتروح ضربًا في الأرض وأخذًا بالأسباب .
فالإسلام قائم على التوازن بين حاجة الروح وحاجة الجسد , حيث يقول الحق سبحانه : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ” , وَكَانَ سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ (رضي الله عنه) إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ , فَقَالَ : ” اللهمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ ، وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتِنِي ، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ” .
فالزهد الصحيح ليس قرينًا للفقر ، بل قد يكون قرين الغنى ، ليملك الإنسان ثم يزهد , فهو زهد الغني ، وليس زهد المعدم ، كما أن الزهد لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب ، فالأخذ بالأسباب شيء والزهد شيء آخر ، يتكاملان ولا يتناقضان .