:أهم الأخبارمقالات

فن المقال (2)

أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

لاشك أن المقال لا يحتاج إلى مقدمات ، بل إنه لا يحتملها , ولا يمكن أن يحتملها , كما أنه لا يحتمل الحشو ولا الإطناب الممل ولا حتى غير الممل , كما أنه ليس بحثا أكاديميًّا يقوم على التأصيل والتوثيق , أو حشو بعض المصادر هنا أو هناك , كما أنه لا يحتمل تعدد الموضوعات ، فهو فكرة مركزة حيث كانت ، وكيف جاءت ، ومتى انتهت انتهى .

ويجب أن يتحلى كاتب المقال بالموضوعية , فلا يتخذ منه سلاحًا أو سيفًا مسلَّطًا على خصومه الشخصيين , أو يكون المقال وسيلة تكسّب أو ابتزاز , فهذا وذاك مآله إلى السقوط حتمًا ” فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”.

ثم إن المقال شأن أي عمل أدبي إما أن يكون وظيفيًّا فحسب ، أو إبداعيًّا وظيفيًّا , أو إبداعيًّا وظيفيًّا وإنسانيًّا ,  فالأول يؤدي رسالة آنية وقتية قد تكون مطلوبة في حينها , وقد تكون ملحة لدرجة ألا يُستغنى عنها , غير أن تأثيرها لايتجاوز وقت نشرها بل حتى قد لايدرك وقت نشره لتسارع الأحداث وسرعة تغطية بعضها على بعض ، ومثل هذه الكتابات الوظيفية لا تخلد عملا ولا تحفر اسم كاتبٍ في ذاكرة التاريخ .

وقد يكون المقال مع بُعده الوظيفى متسمًا بسمة الإبداع لغويًّا وأسلوبيًّا أو فلسفيًّا وفكريًّا أو مُتَّسمًا بهما معًا إلى جانب رسالته الوظيفية , مما يجعل تأثيره أوسع وواقعه أفضل , ومجال الاهتمام به أشمل , ولفت النظر إلى كاتبه أشد , وذلك على قدر ما يكون له من بصمة أو تأثير , فيقال : فلان معني بمقالاته , يحترم ذاته وقلمه وقراءه ومتابعيه , ويقدر لقدمه قبل الخطو موضعها .

أما النمط الأعلى فهو ذلك النمط الذي يمتلك إلى جانب الفكر سحر البيان وناصية القول , فتتدفق البلاغة منه تدفقا , ويهجم عليك الحسن منه دفعة واحدة , فلا تدري أجاءك هذا الحسن من جهة العمق في الفكر أم من جهة جودة الرصف وحسن السبك وجرس الإيقاع , مع ما يحمله المقال من جوانب إنسانية تكاد تجري مجرى الحكمة ، أوالمثل وتتسع الرؤية لدى كاتبه إدراكًا وواقعًا اتساع الكون وجوانبه المترامية, فتتجاوز جميع الأبعاد المحلية إلى أبعاد وآفاق أوسع تنقل صاحبها من المحلية إلى العالمية , وإن كان هذا كله مما يكلف صاحبه كثيرًا من الجهد والمشقة ويحتاج إلى مزيد من التريث ومن العناء والمثابرة .

ومن حيث الكم وعدد الأسطر والكلمات , يمكن أن تقسم الكتابة المقالية إلى أربعة ألوان أولها وهو الأشد قصرًا ويمكن أن يأتي في سطرين إلى خمسة أسطر وبما لا يزيد عن خمسين كلمة ، وهو مايمكن أن نطلق عليه همسة أو لمحة , وثانيها الخاطرة وتأتي ما بين ستة أسطر إلى عشرة أسطر , وبما لا يجاوز مائة كلمة , وثالثها المقال ويكون ما بين أحد عشر سطرًا إلى خمسين سطرًا وبما لا يجاوز خمسمائة كلمة , ومازاد على ذلك فهو مقالة , إذ إن زيادة المبنى تدل على زيادة المحتوى أو المعنى , وليس هذا تقسيمًا رياضيًّا أو نهائيًّا أو قاطعًا , إنما هي محاولة لتقريب المصطلحات ورؤية تطرح للنقاش القابل للمراجعة أو النماء قد نتفق حولها أو حول بعضها وقد نختلف وقد نسمع رأيًا آخر نراه أدق فنعدل عن رأينا هذا إليه ، فهي رؤية للتقريب ، ومحاولة التقنين , ووضع الأسس التي يمكن أن تسهم في لفت نظر الناشئة من شباب الكتاب والباحثين إلى بعض الموازين التي يزنون بها والمقاييس التي يقيسون عليها .

ويبقى مع كل ذلك ما يعطى لهذا المقال بصمة دون ذاك أو أفضل  منه , أو ما يجعل لمقال ما أو كاتب ما رونقًا خاصًا وسمات مميزة , بحيث تكاد تشير إلى صاحب المقال حتى لو حذف اسمه عن مقاله , فله لازمته , ولقلمه رونقه , ولكلماته جرسها وإيحاؤها ورمزيتها , ولجمله موسيقاها , ولعمق تفكيره وتأمله ما يجعل الجميع يشيرون إليه دون سواه ، ولا عزاء للدخلاء.

 

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى