عمالقة وأقزام
الكبير كبير , والشريف شريف , والعظيم عظيم , والصغير صغير , والقزم قزم , والأسماء لا تغير طبيعة المسميات , والأزياء لا يمكن أن تغير جلد لابسيها , وطلاء المعادن لا يقلب حقائقها , على حد قول المتنبي:
وهبني قلت هذا الصبح ليل |
أيعمى العالمـون عن الضيـاء |
وعلى حد قول الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الملقب بمتنبي القرن العشرين في قصيدته التهكمية الساخرة التي أنشأها تحت عنوان “طرطرا” , حيث يقول : – مع إدخالنا بعض التعديلات اليسيرة على نصه – :
أيْ طرطـرا تطرطـري |
وللتاريــــــــــــــــخ زوّري |
وألبســــي المخانيـــــثِ |
دروع عنتـــــــــــــــــــــــر |
اعطــــــي سماتِ فارعٍ |
شَمَــــــــــــــــرْدَلِ لبُحتر |
واغتصــــــــــبي لضِفدِعٍ |
سمــــــــــــاتِ ليثٍ قَسْور |
وعـــــــــــــــطِّري قاذورةً |
وبالمــــــــــــديح بخَّري |
وشبِّـــــهي الظلامَ ظلُماً |
بالصبـــــــــــاح المُسفِر |
وألبسي الغبيَّ والأحمقَ |
ثــــــــــــوبَ عبـــــقري |
وللمفاخــــــــر اشتـــــري | فللتاريخ لـــن تغيـــــري |
وعلى حد قول المتنبي يخاطب سيف الدولة الحمداني , محذرًا له من اختلاط الأمور عليه بين الممتلئ قوة والمترهل سمنة ومرضًا , حيث يقول :
أُعِيــذُها نَظَـــــــراتٍ مِنْـــــكَ صادِقَــــةً |
أن تحسَــبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ |
وَمَـــا انْتِفاعُ أخي الدّنْيَـــــا بِنَاظِــــــرِهِ |
إذا اسْتَوَتْ عِنْـــدَهُ الأنْـــوارُ وَالظُّلَـــمُ |
ولله در أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي , حيث يقول : ولا يقذف بالأحجار إلا الشجرة المثمرة ولا يقذفها إلا الصبية , أما الرجال فيستحون , ولا يحوم اللص إلا حول البيوت العامرة , فإن حام حول البيت الخرب كان سيد البلهاء .
ويقول القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في مقدمة كتابه “الوساطة بين المتنبي وخصومه ” : وأهل النقص فريقان : فريق يعمل على جبر نقيصته وستر عورته ، وهذا أمر حسن لأنه قد شغل بأمر نفسه ويعمل على إصلاح حاله وشأنه ، أما الفريق الآخر من أهل النقص فقد قعد به عن الكمال عجزه أو اختياره ، أي ضعفه أو كسله ، فلم يجد شيئا أجبر لنقصه وأستر لعورته من انتقاص الأماجد وحسد الأفاضل ، ظنًا أن ذلك قد يجرهم إلى مثل نقيصته أو ينزل بهم إلى مستوى درجته .
على أنني أؤكد أن وصف العمالقة والأقزام هنا لا علاقة له بالجسم , أو الطول والقصر , أو البنية الجسمية , فرب قزم في جسده خير من ألف عملاق في همته وعمله , حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ” , فبهذا المعنى للعمالقة والأقزام نؤكد أن العمالقة لا يعرفون سوى البناء , ولا يحسنون الهدم ، ولا يمكن أن ينشغلوا به أو ينجروا إليه , فهم لا يلتفتون إلى الوراء إلا بقدر استخلاص العبر والدروس , سبيلهم العمل , ثم العمل , والإنتاج ثم الإنتاج , والمروءة ثم المروءة , والشرف ثم الشرف , أم الأقزام المعنويون فلقصر باعهم عن البناء وصغر نفوسهم عن أن تنزل نفسها مكانة أو منزلة راقية التي تستحقها , بل لمرضٍ في هذه النفوس فإنها تتخذ من محاولات هدم العمالقة منهجًا ومسلكًا .
مع تأكيدنا أن الهدم والتخريب لا يقره دين ولا خلق , ولا عرف ولا إنسانية , وأن صاحب النقص لو بذل في بناء ذاته نصف ما يبذله من محاولات في هدم الآخرين من فكر وجهد ووقت وربما مال لغيّر من وضعيته وحسّن من منزلته ومكانته , أما إذا استمر في حقده وغله وحسده فإن نار هذا الحقد والحسد ستأكله يوما ما , ولله در أبي تمام حيث يقول :
اصبـر على كيـــد الحسـود |
فــــــإنّ صبـــــــرك قاتلــــــه |
فالنــــار تأكــــــل نفســـها |
إن لـم تجـــد مـــــا تأكلـــه |
على أن هذا التحاسد الذي يدفع إلى الانتقام لا ينفع الحاسد بل يضره , ولا يغير مما كتب للمحسود , لأن الأمور كلها لله وبيده , وليس للإنسان إلا ما قدر له , ومن كان مع الله كان الله معه .
وإذا العنايـــة لاحظتك عيونهـا |
نم فالمخـــاوف كلهـــن أمـــان |
فليعمل العاملون دون التفاف للخلف أو توقف عن المسير , وليتق الله أولئك الحاقدون المعطلون , لأن الحاقدين لا يهلكون إلا أنفسهم حقدًا وغلاًّ وغمًّا ” َيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ”.