:أهم الأخبارمقالات

على مشارف الهجرة النبوية

أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

     لا شك أننا على مشارف استقبال ذكرى حدث تاريخي عظيم هو استقبال العام الهجري ، تلكم الهجرة التي غيرت مجرى ومسار التاريخ البشري ، فبها تحول المسلمون إلى بناء الدولة على أسس راسخة من العدالة ، وحفظ الكرامة الإنسانية ، وترسيخ فقه التعايش السلمي ، وأسس العيش الإنساني المشترك ، الذي تعد وثيقة المدينة المنورة أحد دعائمه بما قررته من مفاهيم العدالة الإنسانية وحرية المعتقد .

          ومن أهم الدروس المستفادة من هذا الحدث التاريخي العظيم :

  • حسن التوكل على الله (عزّ وجلّ) مع حسن الأخذ بالأسباب ، ففي الوقت الذي ضرب فيه نبينا (صلى الله عليه وسلم) أروع الأمثلة في حسن التوكل على الله (عز وجل) حين قال له الصديق (رضي الله عنه) وهما في الغار : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تحت قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا ، فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ : “مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا “، وذلك حيث يقول الحق سبحانه : “إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” .

         فمع هذا اليقين في الله وحسن التوكل عليه نراه (صلى الله عليه وسلم) يتخذ من الأسباب ما يعد أنموذجا لحسن التوكل وفهمه فهمًا دقيقًا ، وبما يؤكد أنه لا تناقض بين الأمرين بل إن حسن التوكل يقتضي حسن الأخذ بالأسباب ، ففي هذه الرحلة المباركة جهز النبي (صلى الله عليه وسلم) راحلتين واختار الصاحب والدليل والطريق بكل دقة وعناية ، وكلف الإمام عليًّا (رضي الله عنه) أن ينام مكانه ليلة الهجرة وكلف عامر بن فهيرة (رضي الله عنه) بتتبع آثاره وآثار صاحبه للعمل على إخفائها أخذًا بالأسباب ، وهو يدرك غاية الإدراك أن الله كفيل به وبصاحبه ، غير أنه (صلى الله عليه وسلم) قد أراد أن يعطينا درسًا عمليًا أن سنة الله تعالى في كونه تقتضي الأخذ بالأسباب ثم تفويض النتائج لله (عز وجل) .

  • أن الهجرة كانت تحولاً نحو بناء الدولة والحفاظ على كيانها ، فقد كانت تحولاً حقيقيًا نحو البناء والتعمير ، وترسيخ القيم الإنسانية ومكارم الأخلاق التي قامت عليها الرسالة المحمدية , فالمسلم الحقيقي من سلم الناس من لسانه ويده , والمهاجر الحقيقي من هجر ما نهى الله (عز وجل) عنه.
  • ومن أهم الدروس المستفادة من الهجرة النبوية  ضرورة فهم الواقع والتكيّف معه وبناء الحكم على الفهم الدقيق له , فعندما أسلم صفوان بن أمية قِيلَ له وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ: إِنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، فَقَالَ: لَا أَصِلُ إِلَى بَيْتِي حَتَّى أَقْدُمَ الْمَدِينَةَ. فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ، فَقَالَ: ” مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا وَهْبٍ؟ “. قَالَ: قِيلَ إِنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ” ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إِلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ فَقَرُّوا عَلَى مِلَّتِكُمْ، فَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ” .

         وفي هذا ما يؤكد ما يقرره أهل العلم من أن الفتوى قد تتغير بتغير الزمان أو المكان أو الحال, فبعد ما كانت الهجرة مطلبًا , حيث يقول الحق سبحانه : ” إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا” , تغير حكم الهجرة بعد فتح مكة , بقوله (صلى الله عليه وسلم) : ” لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ” .

  • إذا كان أمر الهجرة كتحول من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة قد انتهى بفتح مكة فإن كل معاني الهجرة النبيلة هي ما يجب أن نحرص عليه , كحسن الأخذ بالأسباب تعلمًا ، وتعليمًا , وتخطيطًا , وعملاً , وإنتاجًا , وإتقانًا , بالتحول من البطالة والكسل إلى الجد والعمل والإتقان, ومن الأثرة والأنانية والعصبية الجاهلية إلى الإيثار والإخاء الإنساني الصادق , والإيمان بالتنوع , وحق الإنسان في الاختيار , وحرية المعتقد , وعلاقات حسن الجوار , والعمل على بناء الإنسان إيمانيًّا ، وعلميًّا , وفكريًّا , وسلوكيًّا , وأخلاقيًّا , واقتصاديًّا , واجتماعيًّا , بناء سليما راسخًا , يبني الدولة ويصنع الحضارات , ويحقق صالح البشرية جمعاء , ويحفظ كرامة الإنسان كإنسان , فديننا دين الإنسانية والسلام والإيمان بالتعدد والتنوع , وتأصيل وترسيخ أسس العيش المشترك بين البشر ، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) نبي الإنسانية ورسول السلام ، ورحمة الله للعالمين ، صلوات ربنا وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى