سلامة الصدور
سلامة الصدر أحد أهم أسباب رضا الإنسان عن نفسه ورضا الله (عز وجل) عنه , ذلك أن نبينا (صلى الله عليه وسلم) قال لأصحابه يومًا يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة , فدخل رجل فتبعه سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب ليقف على ما أوصله إلى هذه المكانة الرفيعة , فنزل عليه ضيفًا ليرقب أعماله ومدى اجتهاده في عبادته , فما وجد مزيد صلاة أو صيام أو صدقة , فحدث ابن عمر (رضي الله عنه) مضيفه عن سر نزوله عنده وأخبره بما كان في شأنه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسر نزوله عليه , فقال يا ابن عمر الصلاة والصيام , على ما رأيت , غير أني لا أبيت وفي صدري مثقال ذرة من حقد لأحد.
وقد تتعقد الأمور بين بعض الأشخاص أو بعض القبائل بما يكون بينها أو بينهم من ثأر وخصومات حتى يظن أكثر المتفائلين أنه الطريق الذي لا رجوع عنه , وينسون أو يتناسون أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن , إذا أراد أن يقلِّب أو يحوِّل قلبَ عبدٍ حوَّله , وهو ما كان منه سبحانه حين ألّف بين قلوب الأوس والخزرج على ما كان بينهم من ثارات متعددة وتاريخ طويل من الإحن والعداوة والبغضاء , فقال سبحانه مخاطبًا نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) وممتنًا عليه بتأليف القلوب على يديه: ” وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” , ويقول سبحانه حاثًا على الوحدة ممتنا على عباده بتحقيقها لهم , فقال سبحانه : “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”.
وسلامة الصدر لا يمكن أن تبنى على التوجس والتربص والتحسس وسوء الظن , حيث يقول الحق سبحانه : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ” , كما لا يمكن أن تُبنَى على عدم التسامح , إنما تبنى على الصفح الجميل , وحتى الهجر الجميل , ولين الجانب , ومقابلة السيئة بالحسنة , فالصفح الجميل : هو الذي لا مَنَّ معه , حيث يقول الحق سبحانه : ” فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ “, والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه , حيث يقول الحق سبحانه : ” وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ” .
وكذلك تبنى سلامة الصدر على لين الجانب , حيث يقول الحق سبحانه مخاطبًا حبيبنا (صلى الله عليه وسلم) : “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” , كما تقوم سلامة الصدر على العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة , حيث يقول الحق سبحانه وتعالى : “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” , وحيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ” .
كما أن على الإنسان أن يدرك أن ثمة فرقًا واسعًا بين قلب يحمل العداوة والبغضاء , وقلب يحمل الحب والتسامح مع الناس جميعًا , حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ “.
مع التأكيد على أن سلامة الصدر ترتبط غاية الارتباط بالرضا بما قسم الله , وإدراك الإنسان أن الأمر كله بيد الله (عز وجل) وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه , وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه , حيث يقول الحق سبحانه وتعالى : ” إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” , وحيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيء قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ”.
على أن هناك أمورًا قد تعين على تحقيق سلامة الصدر , فعدل الأب بين أبنائه يورثهم سلامة الصدر بعضهم تجاه بعض , وعدل المعلم تجاه طلابه يورثهم سلامة الصدر بعضهم تجاه بعض , وعدل المسئول بين مرءوسيه وصاحب العمل تجاه عماله يورثهم سلامة الصدر , والإحسان يورث سلامة الصدر , وقد قالوا : أحسن إلى من شئت تكن أميره , واستغن عمن شئت تكن نظيره , واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
ومن الأمور التي تعين على سلامة الصدر الكلمة الحلوة الرقيقة والقول الحسن “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا” , وإفشاء السلام “أفشوا السلام بينكم تحابوا” , وإطعام الطعام , وإكرام الصغير , وقد قالوا : أكرم صغير القوم يكرمك كبيرهم وينشأ على محبتك صغيرهم , ومما يورث سلامة الصدر: التواضع والبعد عن الكبر والاستعلاء على الناس , ومن أهم ما يورث سلامة الصدر ويؤلف بين القلوب احترام إنسانية الإنسان وآدميته , وعدم إحراجه أو تنقيصه , بل العمل على رفع الحرج وإزالته عنه , والتماس الأعذار له , وقد قالوا : التمس لأخيك عذرًا إلى سبعين عذرًا فإن لم تجد فقل لعله كذا لعله كذا , فخير الناس أعذرهم للناس , وأسلمهم صدرًا وأرضاهم نفسًا.