رمضان شهر النصر الأعظم
رمضان شهر الانتصارات لا ريب ، ففيه كانت أول غزوة في الإسلام ، وفيه كان الفتح الأعظم فتح مكة ، وفيه كان انتصار المسلمين في عين جالوت ، وفيه أعظم انتصارات عصرنا الحديث نصر العاشر من رمضان ، ولنا في ذلك وقفات :
الأولى : مع غزوة بدر بعد أن أذن الله (عز وجل) للمستضعفين المظلومين من أصحاب سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يدافعوا عن أنفسهم ، فقال سبحانه وتعالى :” أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ” ، فنصرهم من ضعف وقلة ، وأعزهم بعد أن كانوا أذلة مستضعفين ، فقال سبحانه : ” وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ” ، فهو الذي أنزل الملائكة ، وهو الذي ثبتهم ، وهو الذي ألقى في قلوب الذين كفرو الرعب ، حيث يقول سبحانه: ” إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ”.
فما كان لهذه القلة من المسلمين أن تقتل وتهزم هذه الكثرة من المشركين لولا تثبيت الله (عز وجل) للمسلمين ونصره إياهم على المشركين لبغيهم وظلمهم وطغيانهم ، ذلك أن جيش المشركين هو الذي خرج إلى المدينة متجبرًا مختالا يريد استئصال شأفة محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ، وكان أهل المدينة قد بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على حمايته داخل المدينة مما يحمون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم ، والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: “أشيروا علي أيها الناس” فتكلم جماعة من المهاجرين فأحسنوا ، وكلما تكلم واحد منهم يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : ” أشيروا علي أيها الناس ” ، حتى قَالَ ُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : وَاَللّهِ لَكَأَنّك تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ : أَجَلْ ، قَالَ : فَقَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك ، وَشَهِدْنَا أَنّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقّ ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا ، عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَك ، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَك ، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا ، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ . لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقَرّ بِهِ عَيْنُك ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ.
ثُمّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ امْضِ لِمَا أَرَاك اللّهُ فَنَحْنُ مَعَك ، وَاَللّهِ لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى : ” اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلَا ، إنّا هَهُنَا قَاعِدُونَ ” وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ ، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ سِرْت بِنَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَك مِنْ دُونِهِ حَتّى تَبْلُغَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ (صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ) خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ .
وعندما اختار النبي (صلى الله عليه وسلم) منزلاً لأصحابه قال له الحباب بْن الْمُنْذِرِ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً ، ثُمّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ (صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ): لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرّأْيِ ، وذلك إعلاء لمبدأ الشورى في الإسلام .
على أن هذه الغزوة كانت كما نرى دفاعية يدافع المسلمون فيها عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ومدينتهم ، فلم يكن خروجهم للقتال اعتداء ، إنما كان لرد العدوان.
أما فتح مكة فجاء نتيجة لغدر قريش وتبييتها مع حلفائها من بني بكر لخزاعة حلفاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حيث بيتوهم بليل وقتلوهم رُكًّعًا وسُجَّدًا ، ومع ذلك لما قال أحد الناس يوم فتح مكة :”اليوم يوم الملحمة” ، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) :”اليوم يوم المرحمة ، اليوم يعظم الله الكعبة ” وقال(صلى الله عليه وسلم) قولته المشهورة : ” يا أهل مكة ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا أخ كريم ، وابن أخ كريم , فقال (صلى الله عليه وسلم) : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
أما العاشر من رمضان فكان يوم الدفاع عن الأرض والعرض والكرامة ، ألم نقل : إن القتال في الإسلام لم يكن يومًا بغيًا أو عدوانًا ، إنما هي حرب دفاعية عن الأرض ، والعرض ، والوجود .
أما النصر الأكبر والأعظم في هذا الشهر الكريم فهو الانتصار على النفس وشهواتها وجبروتها وطغيانها ، وقد قالوا : إن الإنسان لا يستطيع أن يواجه عدوًّا وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له ، متحكم فيه ، متغلب عليه .