:أهم الأخبارمقالات

رجــال المهــام الصعبـــة

أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

لكل أمة رجالها ، ولكل مهمة أبطالها ، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم ، وتأتي على قدر الكرام المكارم ، وغرس مفهوم الفداء والتضحية في النفوس لا يحسنه إلا الكرام أبناء الكرام .

وقديمًا قال الشاعر العربي الأصيل  :

إِذَا القَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتَىً خِلْتُ أنَّنِـي

عُنِيْـتُ فَلَمْ أَكْسَــلْ وَلَـــمْ أتـــــــــردد

     وقال أحدهم : لنا أحساب تمنعنا من أن نُظلم (بالبناء للمفعول) ، وأحلام تمنعنا من أن نَظلِم (بالبناء للفاعل) .

        رجال المهام الصعبة هم الذين يكونون سندًا لأوطانهم وقت الشدائد ، هم الذين يكونون على أتم استعداد لفداء أوطانهم بأنفسهم ، محتسبين ذلك عند الله (عز وجل) ، مقبلين غير مدبرين ، موقنين بما أعده الله (عز وجل) للشهداء من منزلة عظيمة ، حيث يقول الحق سبحانه : ” إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ” (التوبة : 111) ، ويقول سبحانه : ” وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ” (البقرة : 154) ، ويقول سبحانه : “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (آل عمران : 169-170) ، وكان من نصيحة أبي بكر الصديق لخالد بن الوليد (رضي الله عنهما): ” احْرِصْ عَلَى الْمَوْتِ تُوهَبْ لَكَ الْحَيَاةُ ” وخاض خالد بن الوليد (رضي الله) بعدها الكثير من المعارك ، وبعد حياة طويلة بين قتال في الجاهلية وجهاد في الإسلام نام خالد بن الوليد (رضي الله عنه) على فراش الموت ، فبكى ثم قال: “مَا فِي جَسَدِي شِبْرٌ إِلَّا وَفِيهِ ضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ أَوْ رَمْيَةٌ بِسَهْمٍ أَوْ طَعْنَةٌ بِرُمْحٍ ؛ فَهَا أَنَا ذا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي حَتْفَ أَنْفِي كَمَا يَمُوتُ البعير ، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبُنَاءِ”، وإنها والله لإحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة  .

  ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ) “(رواه البخاري) ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) أيضًا : “رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها” (رواه البخاري) .

ورجال الأوطان هم من يضحون بأنفسهم في سبيلها على حد قول شوقي :

بِلادٌ ماتَ فِتيَتُها لِتَحيـــــــــــا

وَزالوا دونَ قَومِهِمُ لِيَبقــــوا

موقنين بما للوطن عليهم من حقوق على حد قول شوقي أيضًا :

وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ

يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَــحِقُّ

ولا تقف التضحية عند حدود الفداء والتضحية بالنفس ، بل تمتد لتشمل التضحية بالمال والجهد والوقت والعرق والبناء والتعمير ، وقد فقه الصحابة (رضي الله عنهم) ذلك فقدموا كلّ غالٍ ونفيسٍ لحماية وطنهم ودولتهم ، فهذا أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) يتصدق بماله كله في سبيل الله، وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يتصدق بنصف ماله ، فيقول : أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يومًا أن نتصدق ، فوافق ذلك مالًا عندي ، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا ، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟) قلت : مثلَه ، قال: وأتى أبو بكر (رضي الله عنه) بكل ما عنده ، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟) قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، قلت : لا أسابقك إلى شيء أبدًا، وجهَّز سيدنا عثمان (رضي الله عنه) جيش العسرة في غزوة تبوك ، حتى قال النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (ما ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ) ، كما أنه اشترى بئر رومة من يهودي كان يمنع المسلمين من مائه ، ويجعلها صدقة لله (عز وجل)، حتى لا تتحكم يهود في مصدر شرب المسلمين .

       فالرجال العظماء سند لأوطانهم وقت الشدائد التي يتبين فيها الوفيّ من الدَّعيّ ، والوطنيّ من غير الوطني ، وقديمًا قال الشاعر العربي :

جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْــــــــرٍ

عَرَفْتُ بِهَا عَدُوِّي مِنْ صَدِيقِــــي

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى