:أهم الأخبارمقالات

دولة تقوم

     لا يمكن لمنصف أن ينكر أننا أمام حالة فريدة من حالات بناء الدول  ، فنحن أمام دولة تقوم ، دولة تنهض ، دولة عظيمة تنفض عن كاهلها ما علق به من غبار أزمنة وعقود طويلة ، دولة تستعيد عافيتها ، ومجدها ، وما كان لها من عظمة في سالف الدهر .

     مصر دولة فتية ، دولة لا يستهان بها ولا بمقدراتها ، ولا بشعبها ، ولا برجالها ، فهم كالذهب الخالص الذي لا يصدأ أبدًا ، فما هو إلا أن تزيل عنه ما تراكم عليه من حوادث الدهر حتى يعود أكثر بريقًا ولمعانًا مما كان ، فالمعادن النفيسة لا تصدأ أبدًا ، والشعب المصري نفيس المعدن، عريق الحضارة ، فعواملها كامنة فيه ، راسخة ومتجذرة في أعماقه ، متوارثة في جيناته ، وعلينا فقط أن نعيد اكتشاف أنفسنا ، وأن نثق بقدراتنا على الصمود ، على التحدي ، على الانطلاق ، على الإبداع ، على الإتقان ، على صعود قمم الجبال ، على تحمل المشاق ، على فعل ما قد يستحيل على غيرنا فعله ، معتصمين بالله (عز وجل) ، وبإيماننا به ، وثقتنا فيه ، ثم بما نملك من تاريخ حضاري ، وثقافة رصينة ، وعقول متفردة في كثير من المجالات  ، وجيل شاب ، وموقع جغرافي استراتيجي شديد التميز ، لكن علينا أن ندرك قبل هذا وذاك أن بناء الدول لا يكون بالكلام ، ولا بمجرد رفع الشعارات ، إنما يكون بعمل جاد دءوب متواصل ، قائم على العلم، على التخطيط الدقيق ، على فكر المتخصصين ، وليس الأدعياء أو الدخلاء في أي مجال من المجالات ، ثم على تطبيق ما نتعلمه ونستنتجه على أرض الواقع ، فالفكرة تظل مجرد فكرة مالم تطبق ، وما لم تتحول إلى واقع عملي ملموس ، وما أكثر الأفكار التي تملأ بطون الكتب والبحوث التي تزين أرفف كثير من المكتبات دون جدوى تطبيقية تستفيد منها البشرية .

     إن حال من يحسنون الكلام ولا يستطيعون التطبيق ويفشلون عند أول اختبار عملي أشبه ما يكون بحال من يشاهد مباراة لكرة القدم وهو ليس من أهل الحرفة ولا الصنعة ، ولم يمارس اللعبة يومًا في حياته، ثم يصيح في هذا وينتقد ذلك ، ويلوم المدرب ، وينقد الخطط وطرائق اللعب ، بل إن لومه قد يطال اتحاد الكرة ومنظمي البطولة ولوائح الاتحاد الدولي للعبة ، وربما تجاوز بلومه هؤلاء جميعًا إلى لوم من لا دخل له في الأمر من الأساس ، وما ذلك إلا لأنه يمارس نقدًا في شيء ليس من صنعته ولا في مجال خبرته ، فهو صاعد نازل لا يدري فيما صعد ولا فيما نزل ، تحكمه العواطف ، وتحركه الأهواء ، لا القواعد ولا الأصول ، ولا علاقة له بالمتاح ولا غير المتاح أو الممكن وغير الممكن .

     لذا فنحن في حاجة إلى من يعملون ثم يعملون ثم يعملون ، ثم ينطلقون للتنظير من خلال تجاربهم العملية الناجحة ، لا العكس ، وأن نسند كل أمر إلى أهله المتخصصين فيه ، المدركين لأبعاده ، الملمين به ، السابرين لأغواره ، وأن يبدأ كل منا بنفسه في مجال اختصاصه، فيعمل ، ويتقن ، ويبدع ، ويبتكر في كل جوانب عمله ، فنحن أمة العلم ، أمة الإتقان ، ديننا دين العلم ، ودين الإتقان ، ألم يقل نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” ، ويقول سبحانه : “إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا”.

     كما أن بناء الأوطان يحتاج إلى أناس يؤمنون بها ، ويدركون معنى الوطن ، ومعنى الانتماء إليه ، والتضحية في سبيله ، ويتعاونون في العمل على رفعة شأنه ، يدركون مفهوم المصلحة العامة، وما قرره الفقهاء والأصوليون من أن المصلحة العامة مقدمة على الخاصة ، وما قرره العلماء والمفكرون من حقوق الوطن على أبنائه ، وضرورة افتدائه بالنفس والمال متى لزم الأمر.

      لا شك أننا أمام دولة تقوم وتنهض وسيكون قيامها سريعًا بإذن الله تعالى ، لكن علينا كي نقصر الزمن ونسرع الخطا أن نبذل المزيد من الجهد ، وأن نؤسس لدولة العلم وأهل الاختصاص، وتنتقل روح تمكين الكفاءات من كونها رؤية حكيمة للقيادة السياسية إلى ثقافة مجتمعية في جميع المؤسسات وعلى كل المستويات ، فحاجتنا لتمكين الأكفاء في أول السلم الوظيفي لا تقل عن حاجتنا لتمكين الأكفاء في أعلاه ، كما أننا في حاجة إلى الضرب بيد من حديد على أيدي المفسدين والمخربين دعاة الهدم والفساد ، فالتحديات التي تواجهنا ونواجهها  لا تحتمل غير الولاء الكامل للوطن والانحياز لصفّه ، فلا مجال لإمساك العصا من المنتصف ، أو مهادنة تلك الجماعات الضالة المضلة ، بل على العكس من ذلك فإننا نحتاج إلى المواجهة الشاملة لقوى الشر والظلام ، ونحتاج في الوقت نفسه إلى مزيد  من التفاني في العمل، وبذل المزيد من الجهد ، وإدراك ما يتطلبه بناء الدول من تضحيات قد تكون جسامًا ، لكن عاقبتها دولة قوية عظيمة فتية ، ومرضاة الله ورضاه في الدنيا والآخرة ، مع تأكيدنا أن كل ما يدعم بناء وقوة الأوطان هو من صلب وصميم مقاصد الأديان.

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى