حماية المجتمع من التطرف
كان ذلك هو موضوع المحاضرة التي ألقيتها بمجلس سمو الشيخ/ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبو ظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بدولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة ، وعلى الرغم من أن المحاضرة كانت في الثالث من رمضان الجاري ، فإن هذا الموضوع كان له الأولوية من بين موضوعات أخرى تم النقاش حولها للمحاضرة ، وذلك لما يمثله التطرف من خطر على الهوية الدينية ، وعلى الهوية الوطنية ، فمن ناحية الهوية الدينية ؛ فإن الجماعات الضالة المتطرفة قد حاولت اختطاف الخطاب الديني وتوظيفه أيدلوجيًّا لخدمة مطامعها ومطامع من يمولها ويستخدمها لهدم دول المنطقة وتفتيت كيانها وتمزيق بنيانها ، ذلك أن أي أحد يسمع أن دينًا أو جماعةً تستبيح الذبح والحرق والتنكيل بالبشر ؛ لا يسعه إلا أن يكفر بهذه الجماعة وبما تدعيه من دين افتراء على الله ورسله وسائر كتبه المنزلة ، وأما من جهة الوطن فهذه الجماعات المارقة لا تؤمن بوطن ولا بدولة وطنية ، بل إنها صُنِعَت لهدم الأوطان ، وليس بعيدًا عن أذهاننا ذلك القول المثير للاشمئزاز من الشخص وجماعته الذي قال محمد مهدي عاكف المرشد السابق للجماعة الإرهابية في حق مصر وغيرها من الأوطان التي لا يرونها سوى حفنة من التراب ، فالأرض في منظورهم لا تعد عرضا ولا تمثل شاغلا ولا همًّا ، في حين أن الإسلام أوجب الدفاع عن الأوطان وافتداءها بكل ما يملك بنوها من نفس ومال.
وكان السؤال الأول في المحاضرة ، هل نحن في حاجة إلى تفكيك الفكر المتطرف ، أم إلى تفكيك الجماعات المتطرفة ؟ والجواب الذي لا خلاف عليه هو أننا في حاجة إلى تفكيك الفكر المتطرف والجماعات المتطرفة معًا ، غير أن تفكيك الفكر يأتي في المقدمة ، ذلك أنك قد تفكك جماعة إرهابية أو متطرفة فتخرج عليك جماعة أخرى أعتى وأشد ، غير أننا عندما ننجح في تفكيك الفكر المتطرف وكشف زيفه وزيغه وفساده وإفساده وأباطيله ، فإننا نكون أتينا على المشكلة من جذورها.
وفي سبيل ذلك لا بد أن نكشف وأن نعري هذه الجماعات المتطرفة ، وأن نبيّن عمالتها وخيانتها لدينها وأمتها ، وأن نبرز شهادات من استطاعوا الإفلات من جحيم هذه الجماعات الإرهابية الضالة ، وأن ما يعدون به الشباب كذبًا وزورًا من الحياة الرغدة هو محض كذب لا وجود له على أرض الواقع ، فمن يلتحق بهم مصيرهم التفخيخ والتفجير، وإن فكّر مجرد تفكير في الهروب من جحيم هذه الجماعات كان جزاؤه الذبح أو الحرق أو الموت سحلا.
كما يجب تفنيد أباطيلهم في استحلال الدماء والأموال والأعراض ، والحكم على الناس بالكفر حتى يسوغوا لأنفسهم قتلهم ، واستباحة نسائهم وأموالهم ، وهو ما حذر منه الحق سبحانه وتعالى ، حيث يقول : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ” (النساء : 94) ، ذلك أن هذه الجماعات الضالة تجعل من تكفير المجتمع وسيلة لاستحلال الدماء والأموال والأعراض التي يسعون لاستباحتها لإشباع رغباتهم الدنيئة ، وفي هذا نؤكد أن تكفير المعيّن أي الحكم على شخص بالكفر أو الردّة لا يثبت إلا بحكم قضائي نهائي وبات لما يترتب على الحكم بالكفر من أمور خطيرة.
وكذلك دعوتهم الضالة إلى الجهاد ، مع أن ما يقومون به هو بغي وعدوان لا علاقة له بالجهاد ، وليس من الجهاد في شيء.
ومن ثمة يجب أن نبين أن الجهاد في سبيل الله (عز وجل) أوسع من أن يكون قتالا ، فهناك جهاد النفس بحملها على الطاعة وكفها عن المعصية ، والتزامها مكارم الأخلاق من الصدق والأمانة والوفاء بالعهد وسائر الأخلاق الكريمة.
أما الجهاد الذي هو بمعنى القتال فإنما شُرّع للدفاع عن الوطن ، عن الدول أن تستباح ، وليس لآحاد الناس أو لحزب أو لجماعة أو لفصيل أو لقبيلة أن يعلن هذا الجهاد ، إنما هو حق لولي الأمر وفق من أناط به دستور كل دولة وأعطاه الحق في إعلان حالة الحرب والسلم ، سواء أعطاه الدستور لرئيس الدولة ، أم لمجلس أمنها القومي ، أم للرئيس بعد أخذ رأي برلمانها ، المهم أن قضية إعلان حالة الحرب ليست ملكا للأفراد أو الجماعات ، وإلا أصبح الأمر فوضى لا دولة ، وعدنا إلى حياة الجاهلية ، حيث يقول الشاعر:
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم
وَلا سَـــــراةَ إِذا جُهّــالُهُــــــم ســادوا
والخلاصة ما أحوجنا إلى الفكر المستنير ، والفهم الصحيح للدين ، وتصحيح المفاهيم الخاطئة ، واسترداد الخطاب الديني ممن حاولوا اختطافه ، وكف وغل يد المتطرفين عن الدعوة والفتوى ، وإلى أن نواجه الجهل بالعلم ، والظلمات بالنور ، والباطل بالحق ، والفساد والتخريب بمزيد من البناء والتعمير ، وأن نعمل على ترسيخ الولاء للأوطان من جهة ، وترسيخ أسس المواطنة وفقه العيش المشترك على أسس إنسانية خالصة من جهة أخرى ، وأن نسعى معا وجميعا لما فيه أمن وسلام الإنسانية جمعاء ، وأن ندرك أن العالم كله في سفينة واحدة ، ولن ينجو منه أحد دون الآخر ، وأن أي خرق في السفينة يمكن أن يهلك أهلها جميعا ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ, فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا, وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا, فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ, فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا, فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا, وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا” (رواه البخاري).