:أهم الأخبارمقالات

بين العلم والثقافة

      العلاقة بين العلم والثقافة هي علاقة عموم وخصوص مطلق ، فكل علم ثقافة ، وليست كل ثقافة علمًا ، أما العلاقة بين العالم والمثقف فهي علاقة عموم وخصوص وجهي ، يلتقيان في العالم المثقف ، وينفرد العالم بمن تخصص في علم وانقطع له ولم يأخذ نفسه بالقدر الثقافي الكافي ، وينفرد المثقف بمن أخذ من كل فن بطرف ولم يتخصص أو يتبحر في علم من العلوم ، ومع أننا في حاجة إلي العالم وإلي المثقف معًا ؛ فإن النمط الأمثل الذي به تتقدم الأمم وترقي الشعوب إنما هو نمط العالم المثقف الذي يتخصص ويتبحر في علم ما ، يسبر أغواره , ويجمع أطرافه ، ويغوص في أعماقه ، ويبدع فيه ،
ويأخذ مع ذلك من كل فن بطرف ، ويكون على درجة من الوعي والإدراك  بقضايا وطنه ، وتحديات عصره ، وظروف عالمه ، ملمًا من كل فن طرف , آخذًا منه بنصيب ، وقد كتبت يومًا ما في أستاذنا الأديب الكبير والشاعر الأريب الأستاذ الدكتور / إبراهيم علي أبو الخشب ، الذي لم يأخذ حظه من الشهرة والمجد مع ما كان عليه من واسع الأدب والمعرفة والثقافة.

مَــــــنْ للبـــلاغــــة والأدب

إلا الأديـــب أبــو الخشــب

فـــي كــــل فــــن عنـــدنــــا

مفـــــض بهـــــــم أو سبــــب

      وهو الذي أخَذَنا منذ أن كنا طلابًا بالمرحلة الجامعية إلى عالم الثقافة وفضائها الرحب ، فكان يصول ويجول بنا هنا وهناك شعرًا ونثرًا وحكمًة وملحًا وتاريخًا وطُرفًا ، ويُحَلِّق في كل ذلك عاليًا بلا آفاق أو حدود ، مع حفاظه علي زيه الأزهري الذي لم يفارقه حتي لقى ربه ، وخلّف ديوانَ شعرٍ رائعٍ لم يطبع بعد ، لكن أحد الباحثين تناوله أديبًا في رسالة ماجستير بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة  الأزهر التي أشرف بالانتماء إليها والانتساب لها , وكان لي شرف مناقشة هذه الرسالة عن هذا الأديب الكبير .

   والعلماء المثقفون وإن كانوا عملة نادرة فهم أمل الأمم وصمام أمانها الفكري ، وقائدو نهضتها الفكرية والثقافية .

    علي أن هذا الأمر لا يأتي صدفة وإن كان هناك فلتات ونوابغ في كل أمة وفي كل عصر وفي كل مجتمع .

      غير أننا إذا أردنا أن نُخرج جيلًا يجمع بين العلم والثقافة فلا بد أن نقدر للأمر قدره ونعد له عدته ، ونبني مناهجنا الدراسية والعلمية عليه ، ونخلِّص أبناءنا من العزلة الفكرية، ونخرج من دائرة الحفظ والتلقين والتقليد الأعمى إلى دوائر الفهم والتفكير والإبداع والابتكار في كل المجالات ، وأن يكون بناء الشخصية السوية الواعية المثقفة المبدعة هدفًا رئيسًا في كل مجالاتنا التعليمية والتربوية ، وفي خطابنا الديني والثقافي والإعلامي، وأن تكون لدينا مقاييس لسلوك طلابنا لا تقل عن مقاييس تحصيلهم للعلوم والمعارف ، وأن يكون للمكون الثقافي مكانه المعتبر في العملية التعليمية ، وألاّ ننظر إلى الأنشطة المجتمعية والأنشطة اللاَصفِّية  في العملية التعليمية على أنها مضيعة للوقت أو أنها من نافلة القول ، بل يجب أن ننظر إليها على أنها من صُلب العملية التعليمية , وأن نعطيها وزنًا نسبيًا وحوافز مشجعة .

       على أن دور المثقف الحقيقي في تشخيص الداء والعمل على تخليص المجتمع منه أشبه بدور الطبيب والجراح الماهر الذي يحدد مكان الداء أو الورم ويستأصله بدقة وحنكة بالغة   ، ونحن أحوج ما نكون إلى مشرط العالم المثقف في معالجة كثير من قضايانا العلمية والفكرية والثقافية ، فحاجتنا إلي المثقف الماهر لا تقل عن حاجتنا إلي الطبيب الماهر ، فهذا يصحح الأبدان وذاك يصحح الأفهام .

         مع تأكيدنا على أن العلاقة بين العلم والثقافة علاقة تكاملية , وعلينا أن نعمل جادين على كسر التقابل الخاطئ في أذهان بعض الناس بين الدين والثقافة ، فالأمر على العكس من هذا التقابل الخاطئ ، إذ ينبغي أن يكون العالم أو الفقيه أو الخطيب على قدر كبير من الثقافة المتنوعة ، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، مع ضرورة مراعاة مقتضى الحال والمقام الذي يعد ركنًا أصيلا من أركان البلاغة والبيان ، مما يتطلب أن يكون العالم شديد الاتصال بمحيطه ومجتمعه وبما يموج به العالم من أحداث وتحديات ، ملما بواقعه غير منعزل ولا منفصل عنه .

         وقد عانينا لفترات طويلة من ضيق الأفق الثقافي أو محدوديته لدى كثيرين ، وربما انسداده أو انغلاقه في بعض الأحايين ، وقد صارت أحادية البعد الثقافي ظاهرة تستحق المناقشة ، حيث يركز الباحث أو الدارس على علم أو فن بعينه يستغرقه فكريًا أو أكاديميًا ، ينحصر فيه دون سواه ، مما يخرج لنا جيلاً ربما نجد فيه عالما غير مثقف ، أو غير قادر على العمل بروح الفريق أو التواصل المرن مع أطياف مجتمعه ، لعدم إلمامه بأدوات العصر واتجاهاته الثقافية والمعرفية ، وربما ينحرف بالمتحدث أو الكاتب إلى معالجة خاطئة لبعض القضايا ، أو ينجرف به إلى الصدام مع المتلقي  مشاهدًا كان أو سامعًا  أو قارئًا , مما يتطلب منا بذل مزيد من الجهود في إحداث عملية التوازن المعرفي بين العلم والثقافة.

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى