بلاغة الرسول (صلى الله عليه وسلم)
كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) أفصح العرب وأبلغهم , حيث يقول (صلى الله عليه وسلم) : ” أنا أَفصح العرب بيد أني مِن قريش” , ويُروى أنه لما سأله كل من صاحبيه أبي بكر الصديق والإمام علي (رضي الله عنهما) : يا رسول الله نحن بنو أب واحد ونراك تخاطب وفود العرب بما لا نعلمه ، فمن أدبك ؟ قال (صلى الله عليه وسلم) : “أدبني ربي فأحسن تأديبي” (دلائل النبوة).
ويصف الجاحظ كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) , فيقول : هو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه، وكثُر عدد معانيه ، وجلّ عن الصنعة ، ونُزِّه عن التكلف ، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة ، ولم يتكلم إلا بكلام قد حفَّ بالعصمة ، وشُيِّد بالتأييد ويُسِّر بالتوفيق ، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة ، وغشاه بالقبول ، وجمع له بين المهابة والحلاوة ، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام ، لم تسقط له كلمة ، ولا زلت به قدم ، ولا بارت له حجة ، ولم يقم له خصم ، ولا أفحمه خطيب .
ومن جوامع كلمه (صلى الله عليه وسلم) أنه سُئِل: ما النجاة؟ قال: “امْلِك عليك لسانَك، ولْيَسعْك بيتُك، وابْكِ على خطيئتك”، ووعَظ (صلى الله عليه وسلم) رجلاً، فقال: “إذا قُمت إلى الصلاة، فصلِّ صلاة مودِّع، ولا تَكلَّمْ بكلام تَعتذر منه غدًا، واجْمَع الإياس مما في أيدي الناس” (مسند أحمد) ، وقال (صلى الله عليه وسلم) : “حُسن الخُلق نَماءٌ – أي: بركة وغُنم – وسوء الخُلق شُؤم، والبِر زيادة في العُمر، والصدقة تمنع مِيتة السوء” (مسند أحمد) ، وقال (صلى الله عليه وسلم) : ” أربعٌ إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدُّنيا حفظُ أمانةٍ وصدقُ حديثٍ وحسنُ خُلقٍ وعِفَّةٌ في طُعمةٍ ” (مسند أحمد) ، وقال (صلى الله عليه وسلم) : ” اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ ” (مسند أحمد) .
وكان (صلى الله عليه وسلم) يستمع إلى الشعر ويثيب عليه , أنشده كعب بن زهير (رضي الله عنه) في قصيدته الرائعة المعروفة بالبردة والتي يقول فيها :
أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَني
والعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
إنَّ الرَّسُولَ لَنورٌ يُسْتَضاءُ بِهِ
مُهَنَّدٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ مَسْلُولُ
فلما انتهى من إنشادها ألقى عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) بردته الشريفة إكرامًا له.
وأنشده حسان بن ثابت (رضي الله عنه) في رده على أبي سفيان بن الحارث :
هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه
وعنـد الله فــي ذاك الجــزاءُ
فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : “جَزَاؤُكَ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةُ يَا حَسَّانُ” , ثم قال حسان بن ثابت (رضي الله عنه) :
فإنَّ أبي ووالده وعرضي
لعرض محمـدٍ منكم وقاءُ
فقال له : “وقاك الله حر النار يا حسان”.
ولا ينكر أحد أن التمكن في اللغة باب كبير لحسن فهم كتاب الله (عز وجل) وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، بل إن الأصوليين والفقهاء وغيرهم عدوا التمكن في اللغة العربية وأدواتها أحد أهم شروط الاجتهاد ، وبلا شك هو أحد أهم شروط المفسر وشارح كتب السنة , كما أن التمكن في اللغة يؤدي إلى مزيد من ثقة المتحدث بنفسه .
على أن تعلم العربية مما لا يتم فهم الكتاب والسنة فهما صحيحا إلا به , وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب , وكان سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول : “تعلموا العربية فإنها من دينكم” , ومن ثمة لا غنى لعالم أو فقيه أو خطيب عن الإلمام الكافي باللغة العربية , لأن استنباط الأحكام الفرعية من أدلتها النصية يحتاج إلى سبر أغوار اللغة العربية وفقه أسرارها.