الوجـــوه المسفرة
لقد تحدث القرآن الكريم عن وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين ، فقال في الأولى ” وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ” (عبس :38) ” وقال سبحانه : ” وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ” (القيامة : 22-23) ، وقال في الأخرى :” وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ” (عبس :40-42) ، وقال سبحانه : ” تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ “(المؤمنون :104) ، وقال سبحانه : ” لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ” (الأنبياء : 39) ، وقال سبحانه : ” أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ” (الزمر :24)، وقال في مانعي الزكاة ” يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ” (التوبة : 35) .
والحقيقة أن ما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو سفرة طويلة رأيت فيها وجوها مختلفة لا علاقة للأمر فيها بالجنة أو النار ، فهاتان مآلهما وعلمهما وأمرهما إلى الله وحده ، إذ لا يمكن لأحد من الخلق أن يحكم على أحد بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار ، فذلك شأن خطير ، وفي حديث نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول : ” كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا، أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ ” قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ” (سنن أبي داود) .
إنما كانت القضية تتعلق بمدى انبساط الوجه وتبسم المرء في وجه أخيه ، ومحاولة إدخال البسمة أو السعادة أو السرور عليه ، من باب قوله (صلى الله عليه وسلم) : ” لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ” (صحيح مسلم( ، وقد قالوا : البر شيء حسن ، وجه طلق وقول لين ، هذه الوجوه بغض النظر عن دينها أو مدى تدينها هي دنيا الناس ، وجوه نضرة ، وجوه مضيئة ، وجوه إنسانية .
غير أن على الجانب الآخر نرى الوجوه الكالحة العابسة الكئيبة تعلوها غبرة وترهقها قطرة ، فلا هي فاقهة لأمر دينها ، ولا لأمر دنياها ، فهناك وجوه عبوسة مكفهرة لا تكاد ترى لصاحبها بسمة ولا تدخل على أحد مسرة ، ومع ذلك يظن بعض أصحاب هذه الوجوه العابسة البائسة أن هذا العبوس وتلك الكآبة قد تعطيهم قوة أو تضفي عليهم مهابة مصطنعة ، على أن من يفكرون بهذه الطريقة إنما يحاولون أن يجبروا بداخلهم نقصًا وضعفًا وهزيمة نفسية داخلية ، فقد كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يمزح غير أنه (صلى الله عليه وسلم) لا يقول في جده ولا مزاحه إلا حقًّا ، نحو ما كان من مداعبته لتلك العجوز بقوله (صلى الله عليه وسلم) : ” لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، فَبَكَتْ عَجُوزٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ يَوْمَئِذٍ عَجُوزٌ إِنَّهَا يَوْمَئِذٍ شَابَّةٌ ” وذلك حيث يقول الحق سبحانه وتعالى :” إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا ” (الواقعة : 35-37) .
وقد روى في مواضع متعددة من كتب السنة والسيرة تبسمه (صلى الله عليه وسلم) في وجه أصحابه ، ومداعبته لهم ، وملاطفته إياهم ، فقد رأى (صلى الله عليه وسلم) الإمام عليًّا (رضي الله عنه) نائمًا على الأرض فقال له مداعبًا : ” قُمْ أَبا تُرَابٍ قُمْ أَبَا تُرَابٍ ” (متفق عليه) ، ولما رأى الصحابي الجليل عبد الرحمن بن صخر الدوسي يحمل هرة لاطفه بقوله “يا أبا هر” وظل يلاطفه بهذا اللقب في مواقف عديدة ، بل إن كتب السنة والسيرة لتؤكد أنه (صلى الله عليه وسلم) ضحك في بعض المواقف حتى بدت نواجذه من شدة الضحك ، الضحك الذي لا إسراف فيه ولا يخل بهيبة أو مروءة .
وخلاصة القول أن ديننا دين السماحة في القول والعمل ، والطلاقة والبشاشة في الوجه ، والأريحية في النفس والعطاء ، وفي كرم الطباع ، في الكلمة والنظرة والبسمة ، فالمسلم الحق كريم معطاء سهل هين لين يألف ويؤلف ، والكافر فظ غليظ لا يألف ولا يؤلف ، وشر الناس من لا تؤمن غضبته ولا يرجى حلمه ولا خير فيه للناس .