القــول الفـصل
القول الفصل حكمة وبلاغة وقصصًا وعبرة ، وأخلاقًا وقيمًا ، هو كلام الله تعالى ، فهو أصدق الحديث ، يقول سبحانه : ” وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا “(النساء : 87) ، ” وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ” (النساء : 22) ، وهو أحسن القصص ، وأصدقه ، وأجمله ، وأعذبه ، وأبينه ، حيث يقول الحق سبحانه: “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ “(يوسف : 3) ، ويقول سبحانه : “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ”(الزمر : 23) ، وهو عبرة لكل معتبر ، حيث يقول سبحانه : “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ”(النور : 44) ، ويقول سبحانه : ” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى”(طه : 54) ، ويقول سبحانه: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”(يوسف : 111) .
وهو أعلى درجات الكلام بلاغة وفصاحة ، وقد سمع الأصمعي امرأة فصيحة فقال لها : ما أبلغك وما أفصحك ! فقالت : وأي بلاغة وأي فصاحة بعد فصاحة القرآن الكريم ، لقد جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين حيث يقل الحق سبحانه : “وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ”(القصص : 7) .
وسمع أحد الأعراب قول الله تعالى : ” وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ “(هود : 44)، فقال: أشهد أن هذا كلام رب العالمين لا يشبهه كلام المخلوقين ، فمن ذا الذي يأمر السماء أن تقلع عن إنزال الماء فتقلع ، ويأمر الأرض أن تبلع ماءها فتبلع ، إنه رب العالمين ولا أحد سواه ، فهو الكتاب الذي لم تلبث الجن إذ سمعته أن قالوا : ” قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ” (الجن : 1-2) .
وكون القرآن الكريم هو القول الفصل أمر لا منازعة فيه على الإطلاق ، ويبقى أمران آخران أحدهما : هو أهمية الفهم الصحيح للنص القرآني ، منطوقًا ومفهومًا ، وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي نتجت عن محاولات الجماعات المتطرفة فكريًا الانحراف بفهم النص من مراده ومقصده ، محرفة الكلم عن مواضعه ، لاوية أعناق النصوص بما يخدم أيدلوجيتها الضالة ، مما يتطلب العمل الجاد على تصحيح المفاهيم الخاطئة ، وعلى نشر الفهم الصحيح للقرآن الكريم ، تفسيرًا وأحكامًا ، مع التركيز على فقه المقاصد العامة للقرآن الكريم ، وإبراز ما فيه من الجوانب الإيمانية والأخلاقية والإنسانية ، وبيان ما فيه من الوجوه البيانية وأوجه العظمة في الآيات الكونية .
والأمر الثاني : في غاية الأهمية أيضًا ، وهو التخلق بأخلاق القرآن الكريم والتحلي بقيمه وآدابه ، فنبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول : ” القرآن حجة لك أو عليك “(رواه مسلم) ، وكان سيدنا سالم مولى أبي حذيفة (رضي الله عنه) يقول : زينوا القرآن بأعمالكم ، وتصف السيدة عائشة (رضي الله عنها) نبينا (صلى الله عليه) فتقول : كان خلقه القرآن ، وتقول : كان (صلى الله عليه وسلم) قرآنًا يمشي على الأرض ، وكان سيدنا عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) يقول : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ،وبنهاره إذا الناس مفطرون ،وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا ، حكيمًا حليمًا سكينًا ، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا سخابًا ولا صياحًا ولا حديدًا .
نسأل الله العلي العظيم أن نكون منهم ، وأن يرزقنا بركتهم ، وبركته في الدنيا ، ويرزقنا شفاعته في الآخرة .