العلم بين منظور الدولة ومنظور الجماعة
الدولة تعني : المصلحة العامة ، الرؤية العامة ، البناء العام ، الاستراتيجية المتكاملة، على عكس منظور الجماعات الضيق الذي لا يكاد يتجاوز مصلحة الجماعة .
أما الجماعات المتطرفة فنظرتها ضيقة ويكاد بعضها يحصر العلم في الأحكام الشرعية التعبدية، ولا سيما الإرث الفقهي ، وعلى نحو ما نقل عن الفقهاء الأقدمين بغض النظر عن مراعاة ظروف الزمان أو المكان أو الأحوال ، ودون أي تفرقة بين ما هو ثابت مقدس ، وما هو متغير أو قابل للتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال ، من خلال اجتهاد أهل الاختصاص من أولي العلم والنظر المعتبر .
وبعضها لا يرى منه إلا العلم الغيبي أو العلم اللدني ، وما قد يتبع ذلك من مبالغات قد تصل بالبعض إلى درجة ادعاء الإلهام ونحوه ، ومع أننا لا ننكر أصل العلم اللدني حيث يقول الحق سبحانه : “وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ” (الكهف : 56) ، فإننا نؤكد أنه يعني التوفيق إلى الرأي الصواب ، والقول الصواب والسداد والرشاد ، وليس ادعاء معرفة الغيب أو التنبؤ به .
وهناك فئة أخرى كلما ظهر مستجد عصري في مجال العلوم الحديثة والبحثية والتطبيقية وعلوم الفضاء ، ذهبت لإيجاد أي رابط بين هذه الاكتشافات العصرية ونصوص الكتاب والسنة ، محملة النصوص ما لا تحتمل ، وكذلك يفعلون مع كل أمر من سياحة أو صناعة أو غيرهما ، في محاولة ربطه بنص من النصوص ولو كان ذلك اعتسافًا بيّنًا .
وبعضهم لا يعنى إلا بالعلم الذي ينظر لصالح الجماعة ويرسخ أسس الولاء والانتماء الأعمى الأصم لها .
على أن العلم الذي تبنى به الدولة هو كل علم نافع قائم على فهم النص وفقهه فهمًا مستنيرًا لا يلغي دور العقل في تأمل النص والتعامل معه ما لم يكن نصًا قطعي الثبوت قطعي الدلالة ، وهي نصوص جد محدودة ، حيث اقتضت حكمة الله (عز وجل) أن يتضمن الكتاب والسنة القواعد العامة والأصول العامة والمقاصد العامة ، ويترك للمجتهدين من أهل الاعتبار والنظر مراعاة طبيعة الزمان والمكان والأحوال والأعراف والعادات المعتبرة في ضوء تلك المقاصد العامة ، وهو سر من أسرار سعة الشريعة ومرونتها .
وعلى هذا نفهم أن كل ما ورد في إعلاء شأن العلم يشمل مطلق العلم ، وليس علم الفقه فحسب أو التفسير فحسب أو الحديث فحسب أو اللغة فحسب ، إنما يشمل التفوق في كل العلوم التي تنفع الناس في شئون دينهم أو شئون دنياهم .
إن مفهوم عصر العلم يتطور تطورًا هائلا ومذهلا ، ومن الخطأ البين قصر مفهوم العلم الذي حثنا القرآن الكريم على الاهتمام به على العلوم الشرعية فحسب ، بل يشمل كل ما يحمل نفعًا للناس في شئون دينهم ، وشئون دنياهم ، في العلوم الشرعية أو العربية , أو علم الطب , أو الصيدلة , أو الفيزياء , أو الكيمياء , أو الفلك , أو الهندسة , أو الميكانيكا ، أو الطاقة , وسائر العلوم والمعارف الذي أصبح عالم الرقمنة يتبوأ موقع الصدارة منها , وأرى أن قوله تعالى : “هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ” (الزمر: 9) , وقوله تعالى : “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (النحل: 43) , أعم من أن نحصر أيًّا منهما أو نقصره على علم الشريعة وحده , فالأمر متسع لكل علم نافع ، فنسأل كل مختص في مجال اختصاصه ، الأطباء في مجال الطب ، والمهندسين في مجال الهندسة ، والقانونيين في مجال القانون ، وعلماء الشريعة في مجالات اختصاصهم ، وعالم التكنولوجيا في مجال اختصاصه.
إن قيمة العلم إنما تشمل التفوق في كل العلوم التي تنفع الناس في شئون دينهم أو شئون دنياهم , ولذا نرى أن قول الله (عز وجل) : ” إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” (فاطر: 28) ، جاء في معرض الحديث عن العلوم الكونية , حيث يقول سبحانه : ” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ” (فاطر: 27) , ويقول سبحانه : ” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” (آل عمران: 191) ، ويقول سبحانه “يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ” (الرحمن : 33) ، قال كثير من أهل العلم إن المراد بالسلطان هنا هو سلطان العلم .