:أهم الأخبارمقالات

العاجلة والآجلة

Mokhtar-Gomaa

يقول الحق سبحانه وتعالى : ” مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ” ، فمن أراد الحياة الدنيا العاجلة عُجّل له فيها ما كُتب له وليس له على أية حال إلا ما أراد الله ، ونلاحظ في الآية الأولى ” مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا ” تتابع الجزاء والشرط دون فاصل ، أما مع عمل الآخرة فالأمر مختلف في سياقه اللغوي ، حيث يقول الحق سبحانه : ” وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ” فقد فصل السياق بين الجواب والشرط بجملتين، الأولى : ” وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ” فالآخرة في حاجة إلى سعي وعمل وإيثار لما عند الله ، وليس أي سعي كان أو أي سعي مخادع ، بل هو سعي مخصوص لها وبها ، وهو ما عبر عنه النص القرآني بلفظ “سعيها” أي سعيها المقصود قصدًا لها ، لا كهؤلاء المتاجرين بدين الله الذين يتخذون من الدين مطية لتحقيق أغراضهم ومصالحهم الدنيوية ، أما الجملة الاعتراضية الثانية بين الجزاء والشرط فهي قوله تعالى ” وَهُوَ مُؤْمِنٌ ” أي وهو مؤمن إيمانًا راسخًا أن ما يقدمه لدينه إنما يقدمه من منطلق إيماني راسخ لا يتزحزح بأن ما عند الله خير وأبقى : ” مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ ” .

وقد كان الحسن البصري (رحمه الله) يقول : يابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا ، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا ، وفي الحديث الشريف “مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ “.

على أن ذلك كله لا يعني الاتكالية أو عدم الأخذ بالأسباب أو الزهد الكاذب ، فقد قالوا ليس الزاهد من لا مال عنده إنما الزاهد من لم تشغل الدنيا قلبه ولو ملك مثل ملك قارون ، وإنما القصد ألا تكون الدنيا في حد ذاتها كل همنا حتى لو كانت على حساب ديننا وأخلاقنا وقيمنا على نحو ما يفعل من يرون أن الغاية تبرر الوسيلة أي وسيلة ، وإلا فما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا ، ونعم المال الصالح للعبد الصالح ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِى  فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ  صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ  رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ  يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالاً  لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ  فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ” ، وأهل العلم على أن الغني الشاكر خير من الفقير الصابر ، تشجيعًا للعمل وحثًا عليه ، وخير الناس من يأكل من عمل يده ، ومن أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له ، واليد العاملة يد يحبها الله ورسوله.

ومن هنا كان التوازن بين أمري الدنيا والآخرة حيث يقول الحق سبحانه” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ” ، ويقول سبحانه : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِ ذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ” ، وقد كان سيدنا عراك بن مالك (رضي الله عنه) يقول : إذا صلى الجمعة وقف على باب المسجد وقال : اللهم إني قد أجبت دعوتك وأديت فريضتك وانطلقت كما أمرتني فارزقني وأنت خير الرازقين ، فالعاقل من يربحهما معا من باب : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا .

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى