الخطاب العلمي والخطاب العاطفي
يقوم الخطاب أي خطاب على أسس منها الفكرة والمضمون ، واللفظ والأسلوب ، والعاطفة ، والخيال ، ويحدد مدى ارتكازه على هذا العنصر أو ذاك كونه علميًّا خالصًا يخاطب العقل والمنطق أو كونه إبداعيًّا خالصًا يعمد إلى هز العواطف والأحاسيس وإثارة الوجدان ، أو كونه علميًّا أدبيًّا يعمد إلى عرض القواعد والأصول العلمية في لغة أدبية راقية ، وهذه الطريقة من الأداء تحتاج إلى تمكن من العلم والأدب واللغة معًا وإلى دربة وخبرة ورياضة وتمرس ، وقد يكون علميًّا خالصًا يعتمد على المنطق وسرد الحقائق بعيدًا عن الخيال اللغوي .
على أن نوع الأسلوب إنما يتحدد وفق طبيعة الموضوع والمادة العلمية ، و قد يتحدد تبعًا لهدف ونية ورغبة وتوجه المتحدث ، فإن كان يهدف إلى تصحيح المفاهيم مال إلى المنطق والإقناع والأسلوب العلمي وسوق الدليل ، وتسلل إلى ذلك باللغة السهلة الشيقة الراقية المؤثرة المعبرة الجياشة المتدفقة .
أما إذا كان المتحدث يهدف أول ما يهدف إلى لفت الأنظار واسترضاء السامعين وكان كلُّ أو جُلُّ ما يعنيه هو رضا المستمعين ، عمد إلى مجرد دغدغة العواطف وإثارة الوجدان ولو على حساب الفكرة والمضمون.
ولا يمكن أن يكون جل هم العالم أو المصلح أو الخطيب هو تحقيق ما يطلبه المستمعون عاطفيًّا لا عقليًّا ، فالعالم والمصلح والخطيب كل منهم كالطبيب الحاذق يعطي المريض ما يصلحه لا ما يشتهيه أو مجرد ما يقبله أو يطلبه .
فقد يكون المريض في حاجة إلى العلاج بالجراحة ولا يريدها لكن نجاته محصورة في إجرائها ، فلا يمكن لطبيب ماهر حاذق أن يترك مريضًا للهلاك لأنه لا يريد الجراحة التي لا بديل عنها ، وقد يخبر المريض الطبيب بأنه لا يريد العلاج إلا في شكل شراب أو أقراص لأنه يرتعد من وخذ الإبر في حين يرى الطبيب أن حالته لا يسعفها سوى هذا اللون من ألوان العلاج ، أو أن يطلب الطبيب منظارًا فيقول المريض أنا لا أطيقه ولا أقبله ، وهو أمر لا بد منه لإتمام العلاج الصحيح من وجهة نظره ، فلو سلم الطبيب للمريض بما يريحه لا ما يصلحه لأضر به وضيعه ، وهكذا حال العالم والمصلح والخطيب يعطي الناس ما يصلحهم فإن تمكن من ذلك بلغة شيقة رشيقة راقية مؤثرة وهز فيهم مع ذلك العواطف والمشاعر الراقية فقد جمع بين الحسنيين ووصل إلى درجة البيان الذي يهجم عليك الحسن منه دفعة واحدة فلا تدري أجاءك الحسن من جهة لفظه أم من جهة معناه .
والمتحدث الحاذق هو من يمتلك القدرة البيانية التي تؤهله للوصول إلى مراده من أقصر الطرق وأعذبها وأرشقها ، ومن يمتلك ناصية القول شكلاً ومضمونًا ، معنى ومبنى ، وبهذا تميز الفصحاء والبلغاء على غيرهم ، وقيل لأحدهم أديب وللآخر حكيم أو فيلسوف .
على أن أهم ما يميز العالم أو المصلح أو الخطيب هو إخلاص النية لله (عز وجل) وحسن القصد في القول والعمل ، فما خرج من القلب يستقر في القلب ، وما خرج من محض اللسان لا يتجاوز الآذن ، وما من إنسان قصد بعمله وجه الله فخاب أو ضاع .
وإذا كان الإخلاص مطلوبًا في كل شىء فإنه في عمل العلماء والخطباء أوثق وألزم يقول الحق سبحانه : ” فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ” ، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ” ، وفي الحديث القدسي يقول رب العزة (عز وجل) : ” أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ” .
وعن أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ : ” جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَالَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ( لَا شَيْءَ لَهُ ) فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (لَا شَيْءَ لَهُ) ثُمَّ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا ، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ”.