:أهم الأخبارمقالات

التيسير لا التفريط

أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

تحديد المصطلحات وبيان مفهومها بمنتهى الدقة أمر في غاية الأهمية ، إذ ينبغي أن تكون التعريفات جامعة مانعة كاشفة دفعًا للوهم والالتباس ، فتحت مسمى الالتزام والأحوط والاحتياط فتحت أبواب التشدد التي ساقت وجرفت الكثيرين في طريق التطرف ، حتى ظن الجاهلون أن التحوط في التدين يقتضي الأخذ بالأشد ، وأن من يتشدد أكثر هو الأكثر تدينًا وخوفًا من الله (عز وجل)، مع أن الإسراع في التحريم دون تيقن ودليل قاطع أمر يحسنه الجاهلون والمتطرفون ، أما الفقه الحقيقي فهو رخصة من ثقة ، وهو التيسير بدليل ، ولم يقل أحد من أهل العلم المعتبرين إن الفقه هو التشدد ، ذلك لأن الله (عز وجل) يقول  : ” يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” ويقول سبحانه : ” وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ” ، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ “(رواه البخاري) ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : “  يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا ، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا  ” و “ما خُيِّرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ “.

وإذا كان الإسلام كله قائمًا على التيسير ورفع الحرج فإن هذا التيسير في الحج أولى وألزم , فما يسًّر نبينا (صلى الله عليه وسلم) في شيء أكثر من تيسيره  على حجاج بيت الله (عز وجل) في قولته المشهورة : ” افعل ولا حرج” .

غير أن التيسير الذي نسعى إليه هو التيسير المنضبط بضوابط الشرع ، المقرون بمدى القدرة والاستطاعة ، إذ ينبغي أن يحرص المستطيع على أداء العبادة على وجهها الأكمل والأفضل الذي يحقق لصاحبه أعلى درجات الفضل والثواب ، وبما لا يصل إلى حد التهاون الذي يُفرغ العبادة من مضامينها التعبدية الأصيلة السامية ، وبحيث لا تنحصر همة الإنسان في تتبع كل الرخص في كل الأركان والواجبات وعلى كل المذاهب ، إنما يأخذ من الرخص ما يقتضيه واجب الوقت وظروف أداء الشعيرة وموجبات التيسير.

وفي هذا الإطار يأتي كتاب التيسير للحج الذي أصدره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية من تأليف نخبة من خيرة العلماء المتخصصين ، ومن أهم القضايا التي تناولها الكتاب نذكر ما يأتي :

  • أن الفهم الصحيح لأولويات ما طلبه الشارع من العباد يوجب ألا تكون العبادة سببًا لقتل النفس أو الإلقاء بها في المهالك ؛ لأن الحق في حفظها أرجح وأولى عند الله (عز وجل) من أداء العبادة، لأن أداء العبادة حقه سبحانه ، وحق الله مبنى على الصفح والغفران ، ولأن التكليف إذا ضاق عن وسع الإنسان برئت ذمته منه ، لقول الله تعالى: “لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” ، وقوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِـــلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـــارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” ، فمن رحمة الله (عز وجل) أنه لا يكلف أحدًا من خلقه بما لا يطاق ولا يحتمل.
  • أن التخفيف عن المرضى والمسنين وأصحاب الأعذار لا يقتصر عليهم وحدهم ، بل يتعداهم إلى من يرافقونهم من الأهل ، أو يكونون معهم في الأفواج فيستفيدون من الأحكام التي تقرر التيسير لهم ، ويستفيدون بها مثلهم في الحِل والترحال وأداء المناسك ؛ لأن الضعيف أمير الركب، وحكم الأمير يسرى على المأمور معه ، وهو المصاحب له أو القائم على أمره , وذلك معلوم من أحكام الدين بالفطرة الدينية والفهم السديد ، إذ بدون ذلك يهلك أصحاب الأعذار ويضيع مقصود الشارع من التخفيف عنهم .
  • يجوز الإحرام من جدة لمن قدم للحج من بلده غير محرم؛ لأنها واقعة ضمن بعض مواقيت الحج للقادمين من جهة موقعها للأماكن المقدسة ، ومن ثم يصبح القادمون إليها كأهلها يجوز لهم أن يحرموا بالحج أو العمرة منها، ولا حرج على من فعل ذلك ولا يلزمه دم ، بناء على أن المسألة خلافية بين الفقهاء ، ومن المعلوم أن العمل بأي من الرأيين المختلفين في المسألة التي تحتمله جائز وغير منكر؛ إذ لا يكون الإنكار إلا في الأمر المجمع على حكمه.
  • تجوز الإنابة في ذبح الهدى والأضحية بعذر أو بغير عذر ، ويجزئ عن المنيب في ذلك دفع (صك) الهدي أو الأضحية في الأماكن المختصة ببيعه بعد التأكد من صفة القائمين عليها ، كما تجوز الإنابة في الرمي عن الضعفاء والعجزة والمسنين وسائر أصحاب الأعذار ، وكذلك تجوز الإنابة في أصل النسك الحج كاملاً لمن فقد الاستطاعة البدنية وامتلك الاستطاعة المالية بشرط أن يكون من يحج له قد سبق له أداء فريضة الحج عن نفسه ، وفي كل ذلك ما يؤكد يسر شريعتنا السمحة الغراء وبعدها عن كل ألوان التشدد والتكلف والغلو .
المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى