:أهم الأخبارمقالات

التسمم الفكري

التسمم درجات وأنواع , تسمم قد يحدث نتيجة تناول غذاء فاسد , أو دواء فاسد , أو استخدام أدوات فاسدة , وقد يصل التسمم إلى الدم , فيكون الوباء أشد والعاقبة أسوأ , غير أن الأسوأ من هذا وذاك هو التسمم الفكري , ذاك أن أثر التسمم المادي مهما كان خطيرًا ربما لا يتجاوز الشخص المصاب , أو الأشخاص المصابين , وحال إمكانية علاجه والسيطرة عليه فإن أثره إلى زوال , غير أن أثر التسمم الفكري قد لا يقف عند حدود الشخص المصاب ولا عند حدود مكانه ولا زمانه , إنما كثيرًا ما يتجاوزه إلى محيطه على سعة أو ضيق هذا المحيط ، وقد يتجاوز حدود الزمان الذي يعيش فيه إلى عقود وقرون وأجيال وأجيال , وقد يتجاوز هذا الأثر مجرد الانحراف الفكري إلى عمليات مدمرة , بعضها قد يكون تكفيرًا , فتفجيرًا , فقتلاً وتدميرًا , أو إفسادًا وتخريبًا , وبعضها قد يكون عمالة وخيانة وطنية , أو بيعًا للوطن وأهله بثمن بخس.

وإذا كان المشرع قد وضع عقوبات للتسمم المادي وفق ما يترتب عليه من آثار وجرم من حيث التلاعب بطعام الناس أو غذائهم أو دوائهم أو كسائهم إهمالا كان ذلك أم قصدًا بغية التربح والثراء السريع, وشرع عقوبات لبيع السلع الفاسدة التي تدمر الصحة وتودي بالحياة , ويلحق بذلك المتاجرة في السموم البيضاء وغير البيضاء من المخدرات بكافة أشكالها وأنواعها لما تسببه من إتلاف للعقل وخلايا المخ وإنهاك وتدمير لصحة الإنسان وحياته , فإننا لفي حاجة إلى قوانين أكثر ردعًا لهؤلاء المجرمين الذين يسممون عقول الناشئة والشباب بأفكار مدمرة , ودعوات صراح للتكفير والقتل , وفي حاجة أشد لقوانين أكثر حزمًا في تجريم الفكر الإرهابي وبثه ونشره , سواء أكان بطريق مباشر , أم من خلال مواقع التواصل , أم من على صفحات أو شاشات بعض وسائل الإعلام العميلة المأجورة .

ونؤكد أن علماء الدين ورجال الفكر والثقافة والتربية والتعليم والإعلام أمام مهمتين عظيمتين جليلتين كبيرتين:

الأولى : إدراك خطورة الفكر الإرهابي والعمل على تحصين الناشئة والشباب والمجتمع كله من شرور هذا التسمم الفكري , بعدم تمكين أي من أصحاب أو كوادر الفكر المتطرف من تشكيل عقول الناشئة أو الشباب , وتنقية جميع مؤسسات تكوين العقل والفكر , دينية كانت , أم تربوية , أم تثقيفية , أم تعليمية , أم إعلامية من أي خلايا نائمة أو مستترة لتلك الجماعات الضالة المضلة المتطرفة , واجتثاث عناصرهم الإرهابيية من هذه المؤسسات.

الأخرى وهي الأهم : العمل على ملء الفراغ وشغل الساحة بكل ما هو نافع ومفيد ومثمر ومحصن لأبنائنا من خطر هذه الجماعات والأفكار , ذلك أن أهل الباطل لا يعملون إلا في غياب أهل الحق , وإذا فرط أصحاب الحق في حقهم تمسك أصحاب الباطل بباطلهم , فعلينا جميعًا أن نتكاتف معًا , وأن نعمل معًا , وأن نسابق الزمن يدًا واحدة في مواجهة قوى الشر والإرهاب والضلال التي تحيط أو تتربص بنا .

كما أننا في حاجة إلى مساندة مجتمعية لافظة للإرهاب رافضة له , بحيث لا يمكن أن يقبل مواطن واحد أن تكون منطقته حاضنة للإرهاب أو الإرهابيين , ذلك أن الإرهاب لا دين له , ولا عهد له , ولا وفاء له , ولا يؤمن إلا بنفسه, وأنه يأكل من يدعمه , ومن يربيه , ومن يصنعه , ومن يموله , ومن يتستر عليه ، وأنه عندما يصاب بالسعار لا يفرق بين عدو وصديق , لأن أصحابه يفقدون كل حس إنساني , ويتجردون من كل صفات وخصائص الإنسانية , بل إنهم يصيرون أكثر همجية ووحشية من أي حيوان مفترس , ذلك أن الحيوان المفترس قد يتحرك في محيط جغرافي لا يتجاوزه , ولا يفترس إلا قدر شهيته أو حاجته للطعام , أما هؤلاء فهم كما حكى القرآن الكريم عن من تمردوا على الله (عز وجل) وتخلوا عن كل معاني الأديان العظيمة والإنسانية السوية , فقال الحق سبحانه وتعالى عنهم : ” إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا” , وقال سبحانه : “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ” , وهما كما ذكر المتنبي :

ممن تأشب لا دين ولا خلق

فهؤلاء المارقون الضلال لا هم أهل دين , ولا أهل أخلاق , ولا أهل قيم , ولا أهل إنسانية , إنما هم مسخ انسلخ من كل معاني الأديان والإنسانية ومن الآدمية , فصاروا مسخًا آخر لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء , لا إلى عالم الإنسان ولا إلى عالم الحيوان , إنما هم إلى مسخ آخر ذي طبائع خسيسة لم تشهدها البشرية من قبل , إنها طبائع الإرهاب والإرهابيين.

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى